أمجد ياسين
لعل ما يميز عروض المخرج جواد الاسدي هي جودة الصنعة ودقة الأداء، وايصال الفكرة للمشاهد بطريقة فنية، وهو ما يجعل الجسد طاقة مولدة في مسرح جواد الأسدي. هذا ما شهدناه وعرفناه في عروضه السابقة، اذ يستفز طاقة الممثل الكامنة الى اقصى حدودها لتقديم مشهد غني بالحوار والحركة والسينوغرافيا التي يعتمد كثيرا عليها لتوصيل أفكاره.
قدمت المسرحية فرقة « دوزتمسرح – مراكش» المغربية ضمن مهرجان « ايام مسرحية عراقية» وهي من تأليف جان جونيه، اعداد واخراج العراقي جواد الاسدي، وتمثيل رجاء خرماز وزينب النجم، سينوغرافيا يوسف العرقوبي.
قدم الاسدي مستويين من الحوار، احدهما خارجي وهو الحوار المكتوب بكل معانيه ودلالاته، والآخر داخلي يستبطن ابعادا دلالية أوسع واعمق، أول تميز للعالمين هو نبرة الصوت، فاختار لهما نبرة صوت مختلفة، تدل على سيميولوجيا العالم الداخلي والخارجي، صوت يخرج من عمق الشخصية للعالم الخارجي، وكأنه يريد ان يقول لنا ان الشخصية لها وجهان ومستويان وعمقان، يمثلان الأنا التي نشاهدها، والأنا العليا المختفية في تضاريس حياتها الباطنية. مزج الاسدي بينهما في اوقات كثيرة فظهرت لنا الشخصيات وكأنها تحترق ابداعاً على خشبة المسرح، أو هي تنثال بكامل حضورها على خشبة المسرح. وهذا ما شاهدناه في مسرحية « تقاسيم على الحياة» ، كما لو كانت الشخصيات تتحسس حوارها
وما يحيطها.
بهذا المزيح الحركي والصوتي ينقل الاخراج في مسرحية «الخادمتان»بين مستويات بنية الشخصية، بحيث ولد الأسدي لدينا انطباعا انهما عالم متكامل الشخصيات التي تقدم بطريقة فنية متوازنة، من الداخل إلى الخارج وبالعكس، مما يعطي انطباعا أن للشخصيات عالمين، داخلي ذاتي، وخارجي موضوعي، والصراع لا يتم بينهما، بقدر ما يكونا وجهة نظر واحدة مركبة. ويبدو ان موضوعة المسرحية التي تعالج احدى ازمات الانسان المعاصر، الإنسان الشكاك حسب تعبير نيتشه / إنسان ما بعد الحداثة، الا وهو الحقد وما يترتب عليه من كره شديد تجسد بخادمتين لسيدتهما التي تمتلك كل ما حرمتا منه، الحقد ثيمة اجتماعية منسحبة من العلانية إلى السرية الى العالم الداخلي، بينما يكون خارج الشخصية
بمظهر آخر.
لقد حرمت الخادمتان من الجمال والمال والحب والجاه.. وكل هذه ثيمات عالم الرأسمالية التي يعول عليها في مظهرياته الاجتماعية، كسلعة يمتلك الجسد، فتناوبتا عندما تخرج السيدة / الارملة من البيت على اداء دور السيدة والخادمة، إنهما شخصيتان في واحدة، احدهما بقيت خادمة، بينما الثانية اصبحت ممثلة للسيدة، وهنا يبدأ مفهوم «الوهم» من ان الخادمة الممثلة للسيدة تخرج من سياقها الطبيعي لتمثل سياقا مغايرا لها، هذا الدور التخييلي الإيهامي هو الأكثر فاعلية. إنهما يمثلان الاعادة لروتين حياتهما وطقوس السيدة اليومية، من تناول الشاي في فراشها وأخذ حمامها وارتداء ملابسها وتصفيف شعرها والتبرج ثم الخروج لزيارة
صديقة أو الذهاب الى المسرح أو السينما.. وهكذا تمارس الممثلتان طقس التشفي من الحقد هذا في كل يوم بعد خروج السيدة، ولكن هذا التشفي يكون تمثيلا لا حقيقة، والى ان يخرج حبيب السيدة من السجن بعد أن شكته احدى الخادمتين للشرطة ، تبدآن بمرحلة ثالثة، المرحلة الأولى حياتهما الطبيعية كخادمتين، المرحلة الثانية،حياتهما الفنية المستعارة والوهمية كخادمة وسيدة، المرحلة الثالثة ، حياتهما بعد خروج السيد من السجن، فتبدآن بالتخطيط لقتل السيدة، وهو قمة التماهي مع التغريب الجسدي والنفسي، ظنا منهما انه سيسلبهما حياتهما الخاصة، او انه يعرف انه دخل السجن بوشاية من احداهما. كما يبين العرض ان بين الخادمتين / الشقيقتين علاقة خاصة، وهذا مستوى او مرحلة رابعة من حياة الخادمتين، عندما تكونا ضدين وهما مشتركتان في الخدمة، علاقة حب، تفرغان عبرها بعض من حاجتهما الجسدية، وهنا يعود العرض لأهمية الجسد ،مرة يشتغل كخادم، ومرة يكون ممثلا لوضع اجتماعي اسري ، ومرة يحتوي على عالمين داخلي نفسي وخارجي اجتماعي، والمرة الأخيرة يكون مستلبا جنسيا، اذ لا وجود لرجل حقيقي لاسيما ان الشخصيات الثلاث الخادمتان والسيدة بنفس
العمر تقريباً .
تتسع ثيمة «الحقد» المزدوجة في هذا العمل، والتي لا تتمثل في كره الآخر المختلف عنا – السيدة فقط ، وانما في كره من هو شبيه بنا- الاخت، وهذا النوع من الحقد والكرة عند كلتي الاختين هو في حقيقة الامر قراءة في ما تقدمه مثل هذه النماذج عبر تناقضها الحاد من قصص يمكن عبرها معرفة اركولوجية المجتمع من جهة وطبيعة النفس البشرية وهي تواجه الحرمان وتعيش معه وتتنفسه من جهة اخرى. وفي النوعين يتماهى الجسد طاقة معطلة الوجود. خاصة وانهما شقيقتان كما لو كانتا
توأماُ ملتصقا .
تختار الخادمتان طريقة لقتل السيدة بوضع السم لها في الشراب، واذ تتماهي احدى الشقيقتين بتمثيل دور السيدة وتصر على تناول الشراب رغم معرفتها مسبقا بانه مسموم لتموت بعدها، مما يدل على استحالة ان تموت السيدة بالطريقة التي تفكر
بها الخادمتان.
قدم العرض قراءة لتبعات الحقد عبر الجسد، جسد السيدة المعطل، والمستعار تمثيلا لدى الخادمة، وجسد الخادمتين اللتين تحولتا إلى أداتين لتنفيذ الجريمة، وايهاما وشكا بصدق نواياهما، مما يعني انهما غير قادرتين على تنفيذ الجريمة، لأنهما اصبحتا السيدة والخادمة عبر التمثيل، فصدقتا نفسيهما، وبذلك انتظرتا مصيرهما بطريقة غير الطريقة التي
فكرتا بها.
والسؤال :اين يوصل الحقد صاحبه في لحظة تجلياته الكبرى؟ ،وكأن الشقيقتين تحاولان انهاء حياتهما بمزاجهما، بعد رفضهما ما هما عليه كخادمتين بحضور السيدة القوية من جهة، وخسارة فسحة الامل بغيابها من جهة أخرى، وهنا كان الوعي العالي هو المتحكم وليس الجهل، لان القرار كان باصرار وهذا يتناغم مع الكره في ما بينهما كشقيقتين
أساسا.
هذه التركيبة المعقدة من الشخصيات قدمتها مسرحية «الخادمتان» بتركيبة فنية عالية ، ومن هنا نقول ان للشخصية عند جواد الاسدي أكثر من مستوى، جسدي ونفسي، ذاتي وموضوعي، مفرد وجماعي، فالخادمتان تكرهان السيدة وتكرهان بعضهما البعض،لان الحقد دائري يخرج من الداخل إلى الخارج ثم يعود ثانية للداخل، هو صدى الشيطان، وهذا المزيج الغريب جعل من المخرج الاسدي يقدم لنا شخصيتين مركبتين على مستوى الاداء والصوت والحركة، فكان الحوار عميقا ومعبرا والاداء جميلا، والمشاهد مترابطة لا تشعر ان فيها اطالة فضلا عن ان الفواصل بين مشهد واخر كانت محسوبة بعناية، عمل امتلك الدهشة رغم تبنيه المسرح الفقير كمدرسة فنية، يشد المشاهد من لحظته الاولى
حتى النهاية.