خلاسية المُجَسِّد وفسحة للجنون

ثقافة 2019/07/20
...

اسماعيل ابراهيم عبد
للرواية التي يكتبها سعد محمد رحيم طبيعة الطراوة الشبيهة بالندى، بفطرة أرض تعانق المطر، بدنو شجرة من ضفة النهر، كتأثر الماء بألوان الطيف .. هو ممن تتعددُ تجاربُهم الحياتية والفنية والفكرية . 
وللخلاسية في روايته (فسحة للجنون) طراز حكائي مهيمن على بعض فصولها .  يذكر موريس مور لو بونتي، بكتابه (المرئي واللامرئي):” نحن حصيلة خلاسية للفكر والجسد”. ترى كيف يترتب ذلك في المقطع الآتي :[تحت ملايين النجوم ساروا كحشد من آلهة قديمة يقتلها الضجر .. شعورهم طويلة وسخة  وعيونهم زائغة لا تعبير فيها، وأجسامهم نحلت، حتى البدين نائل كان فاقدا غير قليل من وزنه خلال أشهر الجوع الماضية .راح حكمت يغني، وتبعه الآخرون... نفخ حكمت بصافرته فوقفوا صامتين ... تعروا بنصف دقيقة ... والجين المجرى بهمهمات 
خائفة . 
وكما تحت أنظار معبود محب وطيب كانوا كطائفة غريبة تؤدي طقوس تعميد وتطهر .. انهم في ليلة احتفال ... لا تشاركهم به كائنات اخرى ... فرك ـ حكمت ـ شعورهم بصابون الغار ... غَطَّس رؤوسهم في الماء مراراً ... حتى اذا خرجوا من النهر ـ صاروا ـ نظيفين، مملوئين بإحساس خفة وراحة ... لم يأبهوا لرفيف أجنحة طائر ضال عبر فوقهم، ولا لبضع اطلاقات ثارت في جهة ما من جبهة الحرب القريبة ... نطق حكمت بما يشبه الغمغمة : من يدري من هو من؟ صاح : “ نحن نحن”  اكمل  بتنغيم : ((نحن نحن كالزهور .. نحن نحن كالطيور))، غنوا وراءه :((نحن نحن كالزهور .. نحن نحن كالطيور)) ...ملايين النجوم تعشش، منيرة دربهم الصاعد بين البساتين، الى قلب بلدتهم. كانوا الآن كحشد من آلهة قديمة يُرَعّش أعطافها الفرح] ـ فسحة من الجنون، ص212، ص213، ص214.
 نرى ان خلاسية الوجود (الحسي ـ المادي/ الروائي ـ الروحي) يتجه بالروي الى المستويات التعبيرية الفكرية الجسدية عبر التأويل الآتي: ـ اذا كان الجسد يجمع بين الوظيفة والعقل فأن التعقل يجمع بين الحقيقة والتخيل : [تحت ملايين النجوم ساروا كحشد من آلهة قديمة يقتلها الضجر.. شعورهم طويلة وسخة، وعيونهم زائغة لا تعبير فيها، وأجسامهم نحلت]. 
فالبشر أجساد خليطة الشكل والماهية، والنجوم والآلهة كائنات متخيلة،والتعقل يبدو منسجماً مع هيأة وحالة الجنون، كونها متحدة بالتخيل من التشكيل المادي للنجوم والالهة..  
ـ وانه لو صار للقول مظهر فللجسد تعبيره عنه :[ تعروا بنصف دقيقة...والجين المجرى بهمهمات خائفة. 
وكما تحت أنظار معبود محب وطيَب كانوا كطائفة غريبة تؤدي طقوس تعميد وتطهر ... حتى اذا خرجوا من النهر ـ صاروا ـ نظيفين، مملوئين بإحساس خفة وراحة]، فالعري تجسيد  والمجرى تجسيد،بينما الخوف تعبير جسدي نفسي،والطقوس والتعميد والتطهير تعبير سلوكي، في حين ان النظافة والخفة تعبير عن احتواء الجسد للدلالة الحاملة لقيمة الجمال.              
ـ وقد يصير الجسد والعقل وجوداً مادياً فهما فصان في راحة الطبيعة :[نحن نحن.. ((نحن نحن كالزهور.. نحن نحن كالطيور))،غنوا: ((نحن نحن كالزهور.. نحن نحن كالطيور)) ... ملايين النجوم تشعشع، منيرة دربهم الصاعد بين البساتين].                        فعدة من الأفراد المؤلفين لـنغمية (نحن) المغناة، ما هم سوى قبضة من موجودات الطبيعة المحتفية بالطيور والأشجار والنجوم، التي تبلغ ملايين المرات بقدر عددهم، لكن كل كائن جيء به لينشر النور الى طريق الوطن. 
ـ ان كان للفكر حصانة فالنظافة وحدها توقيه من الزلل:[راح حكمت يغني، وتبعه الآخرون...نفخ حكمت بصافرته فوقفوا صامتين... حتى اذا خرجوا من النهر ـ صاروا ـ نظيفين، مملوئين بإحساس خفة وراحة]. 
انهم تحصنوا بنظافة الغناء والصمت والسباحة في النهر، ولن يصير للنهر وللغناء زلل ما في يوم من ايام بلدتهم (ب).
أن السوء كله وجد طريقه في ضلالة الضمير الانساني فما من حل سوى الهروب بإزاء صورة مثال تقترب من جنون العباقرة :[كانوا الآن كحشد من آلهة قديمة يرعش اعطافَها الفرحُ].
ان السوء كله يختزل برصاصات الحرب، والرصاصات أصابت ضمير السلطة بهستريا اضطهاد الناس البسطاء، فما كان من حل غيران يسمو بعض البسطاء بأنفسهم عن كل خراب فيصيروا آلهة للفرح، وهو فرح مثالي يقترب من جنون العباقرة بالفطرة!. ـ ولو ان خلاسية (الهجنة) منغلة فأن من العدل اهمال منطقها:[انهم في ليلة احتفال...لا تشاركهم به كائنات اخرى .. فرك ـ حكمت ـ شعورهم بصابون الغار... َطَّس رؤوسهم في الماء مراراً].