{ 1 }
تعود مسيرة نقد السرد في العراق إلى منتصف عشرينيات القرن الماضي الذي شهد كتابات انطوت لأول مرة على بعض الوعي النقدي والأسلوب النقدي والمعالجات البسيطة ولكن النقدية، وكما تمثّلت في كتابات محمود أحمد السيد التي ظهرت بين منتصف العشرينيات ومنتصف الثلاثينيات، ليكون صاحبها بذلك رائد نقد السرد في العراق، كما هو رائد الرواية والقصة فيه. وإذا كانت تلك المرحلة قد قدمت كتابات مبكرة تغلب على معظمها المحاولة والانطباعية والذاتية وربما المعلوماتية، فإن مرحلة قادمة تمتد من نهاية الأربعينيات إلى نهاية الخمسينيات، قد شهدت بعض النضج في كتابات يبقى الكثير منها، مع هذا، يبشر ويمهد أكثر
مما يقدم النضج كاملاً.
ولعل من أهم ما اتّسمت به هذه (الحركة النقدية) اختلافاً عما سبق اشتماله، إضافة إلى المتابعة والتناول التطبيقي، على شيء من التنظير في الكتابة عن فن القصة، وهو تنظير عكس فهماً ملحوظاً لعدد ليس بالقليل من أصحابها ومنهم عبد الملك نوري والأخوان نهاد التكرلي
وفؤاد التكرلي.
إذا كانت خصائص أو سمات نقد تلك المرحلة تمنحها أهميتها، وهي على أية حال، وكما سمّيناها، مرحلة تبشير وتمهيد، فإن ما يعزّز هذه الأهمية ظهور ما يمكن أن نسميّها الإنجازات التأليفية الكبيرة والمهمة الأولى، لتشكّل مؤشرات التأسيس، بينما ظهرت الغالبية في المرحلة التالية الممتدة من بداية الستينيات إلى بداية السبعينيات وربما منتصفها، وبها صار هناك نقد سرد
عراقي حقيقي.
تلك الإنجازات التأليفة الكبيرة هي: «القصص في الأدب العراقي الحديث»- 1956- لرائد نقد السرد الأكاديمي في العراق عبد القادر حسن أمين، و»نقد القصة العراقية»- 1961- لباسم عبد الحميد حمودي، و»في القصص العراقي المعاصر»- 1967- و»محمود أحمد السيد رائد القصة الحديثة في العراق»- 1969- وكلاهما للدكتور علي جواد الطاهر، و»نشأة القصة وتطورها في العراق 1908-1939»- 1969-
لعبد الإله أحمد.
وتبعاً لذلك يمكن لنا أن نقول إن نقاد تأسيس نقد السرد في العراق، المتحقق في المدة الممتدة من بداية الستينيات إلى بداية السبعينيات، مع إسهام بعض كتابات ما قبلها فيه وتعزيز بعض كتابات ما بعدها له، هم بشكل رئيس: عبد القادر حسن أمين، والدكتور علي جواد الطاهر، وباسم عبد الحميد حمودي، وعبد الإله أحمد، وإلى حد ما الدكتور عمر الطالب، وشجاع مسلم العاني، وفاضل ثامر، وياسين النصير، وعبد الجبار عباس. أحد هؤلاء الرواد، كما رأينا، باسم عبد الحميد حمودي، تؤكد ذلك سيرته وإسهاماته المبكرة والأخرى الداعمة وتواصله، ومن هنا تأتي وقفتنا عند هذا الناقد الرائد.
{ 2 }
في الحديث عن مكانة الناقد باسم عبد الحميد حمودي بين نقاد السرد في العراق، وفي النقد العراقي عموماً، ربما يكون من المفيد أن نستحضر كتابه النقدي الأول «في القصة العراقية». الكتاب عبارة عن مقدمة ربما تكون من أوائل ما كتب بشمولية بعض الشيء عن قصص ما بعد ثورة تموز، ومقالة عن محمد أحمد السيد، وعشر مقالات نقدية عن أعمال عشرة من كُتّاب الخمسينيات.
ومن الطريف هنا أن نكشف عن بعض خصوصية هذا الكتاب مقارنة باحد أهم الكتب الرائدة في نقد السرد العراقي ولأحد أهم رواده، وهو «في القصص العراقي المعاصر» للدكتور علي جواد الطاهر، الذي هو أكبر حجماً بقليل من كتاب حمودي، إذا ما أخرجنا من حسابنا نصوص القصص التي ضمنها الطاهر كتابه. فمعروف لجميع المهتمين بالقصة العراقية أن كتاب علي جواد الطاهر الشهير هذا يُعد كتاباً رائداً، في عنايته الناضجة بالقصة العراقية القصيرة، وأسهامه في (التقييم) النقدي لبعض أهم أعلام القصة العراقية ولمجامعيهم القصصية الناضجة، وهم تحديداً: فؤاد التكرلي في «الوجه الآخر»، وشاكر خصباك في «حياة قاسية»، ومهدي عيسى الصقر في «غضب المدينة»، وغائب طعمة فرمان في «مولود آخر»، ومحمود الظاهر في «النافذة»، وصلاح حمدي في «غداً يأتي الربيع». ولكي نعي أهمية هذا الكتاب أكثر، يكفي أن نعرف أن أربعة قاصين من هؤلاء كانوا جزئياً وصاروا كلّياً من كبار قاصي العراق وروائييه، بعد صدور كتاب الطاهر عام 1967 ببضع سنوات، وهم التكرلي وخصباك وفرمان والصقر، بينما لم يحتل مكانة كمكانات الأربعة السابقين، واختفى تقريباً اسما الكاتبين الآخرين محمود الظاهر وصلاح حمدي. إضأفة إلى هؤلاء، معروف أيضاً أن مكانة محمود أحمد السيد الذي نعرف اهتمام الطاهر به، قد تأكدتْ هي الأخرى، لتؤكد أبوّة هذا الناقد لنقد السرد العراقي.
والآن من الطريف أن نقول إن الكثير من النقاد والدارسين لا يعرفون أن هؤلاء القاصين الأربعة الذين تأكد حضورهم في السرد العراقي وكما التقطتهم ذائقة ووعي الطاهر في كتابه، إلى جانب محمود أحمد السيد، موضوع كتاب آخر له، هم جميعاً ممن كان قد تناولهم باسم عبد الحميد حمودي في كتابه «في القصة العراقية» الذي كان صدر قبل كتاب الطاهر بست سنوات، بينما لم يتناول القاصّين الآخرين الذين تناولهما الطاهر ولم يثبت لهم من مكانة في القصة العراقية: محمود الظاهر وصلاح حمدي. في مقابل ذلك قدم باسم حمودي، في كتابه ذاك، كُتّاباً آخرين لم ينتبه إليهم الطاهر وستصير لهم مكانة في القصة والرواية العراقيتين، وأهمهم: موفق خضر، وشاكر جابر.
{ 3 }
ماذا أردتُ من هذا؟ أردت أن الاستشراف والقراءة المبكرة لبعض أهم النتاجات القصصية العراقية قد سبق فيها باسمُ عبد الحميد حمودي الطاهرَ
بسنوات عدة. لكن الذي فعله بعض مؤرخي أدبنا ودارسيه، أنهم حين سيّدوا الطاهر نقدياً في هذا، وهو بالتأكيد يستحق مثل هذا التسيّد وهو معلمنا النقدي، فإنهم لم يُنصفوا، برأيي، ناقداً كبيراً آخر هو باسم عبد الحميد حمودي، الذي نراه، كما أشرنا، أحد رواد نقد السرد العراقي: عبد القادر حسن أمين، والدكتور علي جواد الطاهر، وباسم عبد الحميد حمودي، وعبد الإله أحمد، والتالين زمنياً: عمر الطالب، وشجاع مسلم العاني، وفاضل ثامر، وياسين النصير، وعبد الجبار عباس.
بقي أنني أرى أن هناك فرقاً رئيساً بين الممارسة النقدية للطاهر وتلك التي لباسم حمودي، وهي أن الطاهر كان انطباعياً بينما كان حمودي تكاملياً، ولا نشك في أن التكاملي أنضج من الانطباعي وأكثر قرباً للحداثة والحديث. وإذا ما أُخذ على هذا النقد ما أُخذ، فقد أُخذ على الانطباعي
أيضاً مثل هذا.