تعود علاقتي مع كتابات الناقد اللبناني القدير علي حرب إلى أول كتابين أصدرهما عام 1985م، الأول تحت عنوان «مداخلات» وهو مجموعة من الدراسات النقدية المعمّقة في أعمال محمد عابد الجابري وحسين مروة وهشام جعيط وعبد السلام بنسعيد العالي وسعيد بنسعيد، والثاني هو كتاب «التأويل والحقيقة».
لا أملك إلا أن أسجّل أسفي بشأن كتابه «لعبة المعنى» الذي ربما مرّت عليه في مكتبتي أكثر من ثماني سنوات، مكتفياً بتوريقه عن القراءة الدقيقة المتأمّلة، فالكتاب يستحقّ القراءة منذ لحظة صدوره، وما هو من الكتب التي يُرمى بها في جانب المكتبة أو تُهمل قراءتها للصدف، لا يزال لم يفقد ألقه ومعناه، هذا إن لم تزد الحوادث من حولنا
أهميته.
كتاب «لعبة المعنى» مملوء بالأفكار بل تكاد المعاني تتدافع من كثافتها، وهو عصيّ على القراءة لازدحام تأملاته حتى برغم اللغة السهولة الواضحة التي يكتب بها علي حرب في الأغلب. على أيّ حال، صدرت الطبعة الأولى للكتاب عام 1991م بيد أنك تشعر أنه كتاب الموسم، بل قُل كتاب اللحظة الحاضرة.
عن الإنسان بين الماضي والحاضر، يكتب: «ليس يقيناً ثابتاً أننا نحن اليوم أكثر تقدّماً ورُقيّاً في فكرنا ووعينا وفي رؤيتنا ممن سبقونا.. إننا متقدّمون على القدماء بعلومنا وتقنياتنا، ولكننا أقلّ حكمة وتدبيراً منهم، وهم كانوا متقدمين علينا في وعيهم وفكرهم وخلقهم.. الحقّ أننا لا نشهد اليوم تقدّماً وتطوراً في المجال الإنساني، بل إنه انهيار وتقهقر».
عن نمط الحياة يقول: «ثمّة طريقة في العيش لا تأخذ بنظر الاعتبار حاجات الإنسان، بل تحيله إلى مجرد حيوان ينتج ويستهلك ويلهث وراء تجميع المال والحطام ومضاعفة الأشياء وتكاثرها، مما يجعل هذا الإنسان يحيا في حالة دائمة من عدم الاكتفاء والحرمان، ويفقده قيمته وكرامته ويجرّده من مروءته وإنسانيته، لذا يشعر الفرد المعاصر بأنه محبط وخاوٍ ومحاصر
بالكلّية».
عن مصير الإنسان يكتب: «لقد بات الإنسان وهو الهدف والغاية، آلة وأداة ووسيلة لكلّ هدف، وهذه الستراتيجيات القاتلة أدّت إلى موت الإنسان». نختم برائعة من روائع هذا الكتاب ـ وما أكثرها ـ يخلص فيها علي حرب إلى القول: «بالمحبة يدرك الإنسان بُعده اللامتناهي والمتعالي حيث تلتحم أجزاء الكون وتأتلف وتتناغم.. وبالمحبة تصبح الذات مرآة مجلوّة تشرق فيها صور الحقائق كلها».
يريدونه عالماً بلا إنسان وتريده هذه المعاني عالماً بالإنسان!