اِيـقـاظُ الكـتابـة

ثقافة 2019/07/23
...

رعـد فاضل
كما فهمنا من ((إنّ المعنى لا يقوم قبل الفعل ولا بعدَه)) وسكت. كأنّه يلمّح إلى أنّ المعنى يقوم في أثناء الفعل حسب لأنّه استثنى هذه الـ(أثناء) من الذّكر. ما المعنى إذاً قبل  كتابته إلّا فكرةٌ غاطسة في العدم إذ لا فعل لها بعد، ولا بَعـدِيَّة للمعنى بعد كتابته لأنه ببساطةٍ صار يُولِّد من فكرة قائمة برأسها أفكاراً أخرى ما كانت لتكون ما قبل فعل الكتابة فتحوّل المعنى نفسه إلى معانٍ، وقد يتحول كلّ معنى من هذه المعاني المولَّدة إلى مَعـنَمات شتّى، أي إنّ المعنى الأصل قد فقد بكارته بعد أن دخل في نوع من التفاعل الاِيروتيكيّ التّوالدي عِبر الكتابة فصار التعرّف إليه بمولَّداته، أعني بآثاره التي خلّفها لا به وقتَ كان فكرةً بِكراً ما تراود كاتباً ما.
 
  إذا كان فعل الكتابة ((يوقظ معنى ارادة الإرادة كحريّة وانقطاع عن وسط التاريخ التجريبيّ على أمل تحقيق وفاق مع الجوهر الخفيّ للتجريبيّة ومع التّاريخانية المحض)) كما يُحاجِج  دريدا نفسه، فإنّ معنى ارادة الاِرادة سيوقظ بالمقابل أيضاً شيئاً من التـّنبُّه إلى الّلا اِرادة نفسها، تنبّه مفاده أنّ الكاتب ليس هو وحده من يمارس فعل الكتابة حسب وإنّما هنالك فعل آخر وإن كان خفيّاً يسهم في ذلك ألا وهو فعلُ لا ارادة الكاتب، وما هذا الفعل الآخر إلّا ثقافة الكاتب تاريخاً وانتماء وتجربة وواقعاً نفسيّاً وأصولاً ورؤياتٍ ولغة وأسلوباً كونها مجلوبةً بالنسبة إليه لا من عنديّاته، وتِبعاً لذلك لا يمكن عـدّ الكاتب وفعله الآخر فعلاً واحداً مستقلاً قائماً بذاته، أي ما من كتابة صافية بالتّمام. 
من هنا قد يمكن القول فعليّاً بـاِرادتين للكتابة: اِرادة الذّات الكاتبة بوصفها استقلالاً وانقطاعاً عن كلّ ذات كاتبةٍ أخرى، وبـلا اِرادتها بوصفها الذّاتَ الثقافيّة التّاريخانيّة الإجتماعيّة المتّصلة  بالعالم والأشياء.                                                                  
أليس انتقال كلّ فكرة عبر شكل تعبيريّ إلى العالم نوعاً من فقدان الحريّة، أي نوعاً من التّحول من كونها كانت حرّة في الذهن فتحوّلت إلى مسؤولية مباشرة بعد اشهارها؟. ألا يعني هذا الانتقال نوعاً من التّعرية للفكرة بعد تدشينها وتحوّلها إلى وضعٍ ما عادت قادرة على التّراجع عنه بعد أن تموضعت نهائيّاً وأمست قابلةً للتأويل والفهم؟. ولكن مثل هذا الفحص قد يبدو منطوياً على دعوة مضمرَة إلى أن تبقى كلّ فكرة معلّقةً أو مقاوِمَةً لكلّ انخراط تامّ في أيّما شكل للكتابة!. 
ما أردتُ الذّهاب إليه هو وجوب مقاومة الفكرة لكلّ ما من شأنه خلخلة تعليقها خلخلةً كاملة فلا يتبقّى لها أثرٌ فتُنسى وتُمحى، لأنّ التعليق (نظريّاً) يكاد يكون الأدبيّة نفسَها، وأيضاً أن تقاوم الفكرةُ محاولاتِ تحويل هذا (التّعليق- الأدبيّة) إلى موضوع محدّد ومحسوم ونهائي. ولتظلّ الفكرة موحية ومشعّةً ينبغي تناولها من قبل الكاتب بوصفها مغزىً وهدفاً لا وسيلةً، وهذا يعني أنّ الكتابة نفسها ستكون كتابةً- مغزىً وهدفاً لا وسيلة أو كتابةً لموضوع لأنّ المغزى وفقاً لهذا الفهم سيميائيٌّ بامتياز وليس معنى بحتاً، إنّه معنى المعنى، إنّه الدّلالة، إنّه الالتباس. 
 الكتابة الملتبـِسة ربّما تكون تعبيراً عن مكيدة لكتّاب ما يظلّون يطيحون بالأشكال التاريخيّة للكتابة. وما الشّكل الملتبـِس هذا الذي يقوم بهذه الاِطاحة إلّا أحد تلك الأشكال الكتابيّة التي ستنخرط هي الأخرى بعد تفكيك التباسها وتوصيفه إلى تاريخ أشكال الكتابة. فكلّ مُلتبس ما كان ليكون غائباً إلّا قياساً بـ (آخرَ) مقهورٍ بحضوره، أي إنّه لم يعد قابلاً للعيادة والفحص والتأويل والتحليل، أي لم يعد قابلاً لتقليب النّظر فيه، أي لم يعد فاعلاً ، أي لم يعد
 قابلاً للنقـد.          
قصيدة النّثر أو ((التعبير شعريّاً بالنّثر)) في نماذجها الحقيقيّة أحد أهمّ أنواع المقاومة لمثل هذا القهر الكليّ إن لم تكن أهمّها، ذلك أنّ فاعليّة حضورها تظهر حيث لا يمكن دائماً توقّعها. من هنا كلّ ذات كتابيّة- بوصفها طريقة تعبير وعقلاً ثقافياً- تنسجم وتتطابق مع ذوات قرائيّة تكون قد قُهِرت بالتّداول، أي ما عادت قابلة للتّواصل، أي ما عادت مدهشةً، أي فقدت سحر كتابتها  جمالياً 
ومعرفياً؟. 
لا يمكن أن تكون كلّ كتابة خلّاقة شكلاً تاريخياً كما وثيقة من الماضي يُعثــر عليها لتكون نوعاً نهائياً وقارّاً من الُلقى والأثريّات أو الأنتيكات. الكتابة الخلّاقة أبداً تنتظر دائماً (هناك) لنكتشفها ولننخرط
في تخومها.
هنا، بخاصّةٍ، يبرز دور النقد من جهتيه التحليلية والتأويلية في أن ((يقنع القارئ العارفَ بأنّه يعرف عن ما يتكلّم، وأن يقنعه بأنّ المبررات التي يوردها تنتج في الحقيقة الفاعليةَ التي خَبرَها، والّإ سوف تبدو هذه الفاعلية وكأنّها لا رابط بينها)) كما يشترط وليام امبسون ذلك على النّقد في كتابه سبعة أنواع 
من الغموض.
 وإذا ما نظرنا إلى النقد العربيّ وفقاً لهذا الاشتراط  كم سنجده في أغلبه بعيداً عن مثل هذا الإقناع، فالقارئ العربيّ لشعره ليس وحده من يبحث عن ما يتطلّبه نزوع قراءته الشخصيّ وإنّما الناقد العربيّ نفسه من يفعل ذلك أيضاً إلّا  القلّة الذين ندّوا عن ذلك وندروا مّما جعل نقدنا نمطيّاً لا نقداً يدرس ليكتشف ويُنظِّر ليؤسّس، إذ إنّ النقدية النمطيّة أشبه ما تكون بمؤسسة يسيّرها نظام قياسيّ صارم لا يعنى إلّا بأنماط شعريّة وطرق تعبير وأساليب كتابةٍ بعينها وبذلك أصبحت ثقافتنا الشعرية والنقديّة كما الفكرية والسّياسية والاجتماعيّة... نمطيّةً قياسيّة اجتراريّة بامتياز لا ثقافةَ تجاوز وبحث واستقصاء واكتشاف وتجدّد. وتِبعاً لذلك ستظلّ الكتابة دائماً تتطلّب نقاداً منظِّرين مفكّرين، لا نقاداً سياقيين 
نمطيين.