نسرين البخشونجي
لماذا يرتبط التمدن والتحضر بغضب الله في العقل الجمعي لبعض العرب؟ سؤال تطرحه رواية “ترتر” للكاتب العراقي نزار عبد الستار. من خلال سرد ممتع لقصة تاريخية خيالية لفتاة ولدت لأب ألماني وأم تركية تدعى آلينور هانز. أختارها الامبراطور الألماني “فيلهلم الثاني” والسلطان العثماني “عبد الحميد الثاني” لتقوم بدور مهم في مدينة الموصل بالعراق. دور كلفها عشر سنوات من عمرها وحرب باردة بينها وبين ثلاث قوى عظمى تطمع في الموصل. روسيا، فرنسا وإنجلترا.
كانت “آلينور هانز” مجرد فتاة تعمل مرشدة سياحية بشركة توماس كوك، أختيرت لمرافقة “فيلهلم الثاني” وعائلته في زيارتهم التاريخية للشرق. رغم كونها طموحة وذكية لم تكن تتصور أن يتم الأتفاق على دورها المهم في الموصل في محاولة جادة من السلطان عبد الحميد للسيطرة على التوغل الإنجليزى فيها، إيمانا منه بأهميتها الستراتيجية مستقبلا بعدما خفت دورها الاقتصادي بعد افتتاح قناة السويس.
لأشهر طويلة قامت عناصر من الاستخبارات الألمانية بإعدادها لتبدأ مهمتها في مدينة الموصل العراقية كسيدة أعمال تمتلك مصنعا ومحلات للأزياء في أوروبا وتقرر افتتاح فرعها في الموصل باسم “رودولف”. كانت آلينور صادقة جدا في محبتها وأحلامها، لذلك نجحت بشكل كبيرعلى مدار سنوات عشر في مهمتها وأحدثت فرقا ملحوظا بين أهل الموصل رغم رفض بعضهم، لذلك لم يتركها المحتل الإنجليزي لتكمل إنجازاتها التي ستكون سببا في نهاية وجودهم بالمدينة العراقية.
في الوقت الذي كان الإنجليز يعتمدون على تجهيل، تفقير وتبجيل الخرافة مستخدمين رجال الدين من المرتشين وأصحاب المصالح لأن ذلك يخدم مصالحهم ويبسط سيطرتهم على الموصل. كانت آلينور تسعى من خلال مصنع الملابس الذي تملكه لتحسين ذوق المجتمع، افتتحت مستشفى الغرباء واشترت أول جهاز للإشعة من ألمانيا، اسست عيادة للطب النسائي. حتى أنها شرعت في تأسيس جامعة “ حين نفتح في الموصل جامعة تدرس العلوم سيفهم الناس الله فهما صحيحا، وعندها لن يكون باستطاعة الشيخ معروف الظهور مجددا.”
وهذا الموقف المعادي للعلم، التقدم والتمدن من قبل بعض رجال الدين المتنفعين من استمرار التخلف والجهل على مدار التاريخ. لذلك أوجد الكاتب داخل النص الروائي نوعين من رجال الدين “الشيخ معروف” والشيخ سعد” كنموذجين مختلفين كليا يخدمان فكرة الكاتب، إذ أن الشيخ معروف يحرض الناس على رفض أي شيء جديد مثل “جهاز الإشعة” والذي افتي بأن استخدامه حرام
شرعا.
“على المنبر في صلاة الجمعة الثالثة وبيده صورة أشعة لساق رجل، وأخذ يصرخ أسفا على ضياع الغيرة الإيمانية، وتفشي الغفلة، وكيف أن الإفرنجة لم يكفهم هتك المقدسات، وسفك الدماء، فراحوا يصورون ما لا تدركه الأعين، ويظهرون ما كساه الله باللحم.” لكن “الشيخ سعد” الذي لزم بيته بأمر سلطاني لمدة عشرين عاما يمثل رجل الدين المستنير، حين لجأت إليه آلينور كي يكف الأذى عن مدير مستشفى الغرباء الطبيب غزالة قال لها “لن يستجيبوا لي، فأنا رجل يحب الموسيقى، والغناء، ولعب الشطرنج.” وحين سألته لماذا أنت لست بقوة “الشيخ معروف” رد قائلا “حين وزعوا العمائم لم تكن لديهم واحدة على قياس رأسي.” ربما أراد عبد الستار أن يطرح على القارئ أهمية تجديد الخطاب الديني في الوطن العربي والذي سيكون نواه التمدن والتحضر والتنوير.
ألمح الكاتب نزار عبد الستار للبداية التاريخية وبذرة إقامة دولة يهودية على أرضها حيث جاء في حوار بين القنصل الإنجليزي في الموصل واليهودي العراقي شاؤول جلعادي “حين يغير فيلهلم الثاني رأيه، عندها سنجلس أنا وأنت ونتكلم بشأن مصالحنا الشخصية..
أنا وأنت فقط يا سيد جلعادي”. تاريخيا كان موقف السلطان عبد الحميد الرافض لهذه الفكرة معتبرا إيها خيانة للعروبة وللدين وهذا الموقف كلفه الكثير حيث تم خلعه من منصبه عام 1908.
رغم أن الرواية بدأت في إسطنبول عام 1898 ويمكن أن نعتبر أن أحداثها انتهت بلقاء بين السلطان عبد الحميد وآلينور في إسطنبول عام 1908 حين أبلغها بانتهاء مهمتها في الموصل بشكل مفاجئ.
إلى أن الكاتب أنهاها برسالة إلى الكولونيل تايلر إليوت بعد إحتلال الإنجليز للموصل في شهر ديسمبر عام 1918 أي بعد وفاة السلطان عبد الحميد بعدة أشهر ليأكد له أنهم لم يعثروا على آلينور وكل من كانوا معها في الموصل لكنهم استطاعوا أن يمحوا اسمها من كل السجلات والدفاتر حتى منازلها الثلاثة بحي النصارى بالموصل تم هدمهم “وبذلك يكون اسم آينور هانز لا وجود له على الإطلاق.”، في إشارة من الكاتب على تزييف التاريخ واختفاء الصدق والحب.