تراجع الشعر أم تقدم الرواية الشاعرة ؟

ثقافة 2019/07/24
...

عادل الصويري
 
بمجرد أن استفحلت ظاهرة الجوائز الكبرى، وذات المردود المادي الكبير، والمتعلقة بجنس الرواية، واجتذبت لها الاهتمام من قبل الأدباء والكتاب وهو اهتمام نتفهمه؛ حتى ارتفع الصوت النقدي عالياً، والقائل بتراجع الشعر إلى الوراء، وانهيار مقولة “الشعر ديوان العرب”، وصار الاحتفال ــ الاحتفال الاعلامي لا الفني ــ بتقدم السرد وهيمنته على المشهد الأدبي وعلى الذائقة العامة هو المهيمن على منطق القائلين بأزمة الشعر وتقهقره معتمدين على نسب مبيعات الكتب في معارض الكتاب هنا وهناك.
على المستوى العربي؛ نعتقد أن ردود الفعل الانفعالية هي التي تتحكم بالمزاج العام للمتعاطين مع الشأن الأدبي والثقافي، حيث تحولت المنافسة بين أجناس الكتابة الابداعية إلى ساحةً للصراع الذي تغلَّب فيه منطق الإيديولوجيا على المنطق الجمالي، وهنا قد يحيلنا هذا إلى صراع المناهج بين النقد الثقافي والأدبي والأنساق المضمرة التي تتحكم بالمنجزات والفعاليات التي تحتفي بها. فأمام جوائز البوكر وكتارا الخاصة بالرواية؛ نجد مسابقة أمير الشعراء وكتارا شاعر الرسول الشعريتين، وكل يجر نار الكتابة الابداعية إلى قرصه. القائلون بتفوق الرواية يميلون إلى فرضية تطور الكتابة وفق الذوق الليبرالي القائم على نسف ما سبق، بينما يرد المنحازون للشعر بأنه مازال سيد الساحة مجترين مآثر الفخر بالقبيلة والآباء والأجداد، حتى مع قولهم بالشعر الحديث والمواكب للتطور ومجيئه بالقوالب الشكلية القديمة ممثلة بشعر الشطرين الذي نهضت منه ومنذ تسعينات القرن الماضي أجيال طورت فيه وقدمته بروح جديدة ومعاصرة.
السؤال الآن: هل فعلاً أن الشعر تراجع وانحسر دوره وقلَّ قُرّاؤه أمام تقدم الرواية؟ إن التصور بعدم وجود أزمة في الشعر وانه بخير على نحو المطلق يبدو تصوراً رومانسياً وحالماً، مثلما أن الجزم بانهياره وتقهقره أمام السرد والرواية تحديداً يبدو تصوراً يجنح للتطرف.
ان إشكالية الحداثة الشعرية لاتزال تتفاعل بشكل كبير، والحديث عنها يخضع لصراع الأشكال بين الشعر الذي يمثل ذاكرة وقيماً ، ويتم تجديده على صعيد اللغة دون الخروج عن ثوابته الايقاعية، وبين شعر ينشد الانفلات متشبثاً بنسق تقليد الشعر الأوروبي الذي لم يدرك كثيرون أنه يخضع لضوابط وزنية وإيقاعية، غير أن الترجمة أوهمتهم أنه شعر منفلت.
 الانفلات والمجانية، وسوء فهم الحداثة أسباب  جعلت مشهد الشعر يرتبك لكنه لم يتقهقر أو ينهار لحساب تقدم السرد، فمثلما يوجد شعر يعبث بالقيمة الانسانية واللغوية؛ يوجد شعر حقيقي يرتقي بالذائقة جمالياً ويقترب من الهم الانساني، وبطبيعة الحال لا يمكن إخضاع الشعر “للمقاييس النهائية بصفتها خلاصة” على حد تعبير (أدونيس).  
 
الشعر يرتقي بالرواية الحديثة
الرواية الحديثة التي تتقدم الآن هي رواية شعرية بامتياز، تعتمد على الصورة المتخيلة والمفارقة والمخاتلة وتداخل الأزمنة داخل الحكاية الواحدة، كما أن توجه بعض الشعراء المبدعين لكتابة الرواية؛ أضاف للمشهد السردي قوة كبيرة، وارتقى به من خلال مهارة التعامل مع اللغة، وإنتاج المشاهد السردية تخيُّلاً وواقعاً، وهذا بحد ذاته كفيل برد المقولات الانفعالية تجاه الشعر الذي يوصف بأنه يمثل أزمنة الانتماء لمفاهيم قديمة، وأغراض المدح والغزل والهجاء والفروسية، أو يوصف بأنه الهوية الثقافية العربية الوحيدة، وهي محاولة لاتهام الشعر بإقصاء الأجناس الأخرى وهو كلام انفعالي ــ كما قلنا ــ لا حظ له من الموضوعية.
في الرواية الحديثة اليوم؛ نجد جملاً سردية في غاية الشعرية التي تستفز المخيال وتستنفر ذهنية التلقي على طبق تأملي، وتعتمد تشظية الأصوات وتعددها لتكون الشعرية خيطاً رابطاً بينها وهذا من أهم منجزات السرد الحديث لو تأملناه جيداً. وفعل الشعرية في السرد ليس عبثياً، فهو يقترب من متاهات الانسان الممزق بالأسئلة الوجودية، واستفهاماته المتكررة، وكل هذه الأشياء تفعلها الرواية الحديثة بزخم مكثف الشعرية التي ترتكز على محاور تشبيهية مستحدثة، وفلسفية مخففة جمالياً بلغة الشعر، واستفهامية، وهذه المحاور المهمة تشكل اليوم نقطة ساطعة يتحد فيها الواقع بالخيال؛ وذلك لتجنيب السرد المباشرة والخطابية والتقريرية المملة التي غادرتها الكتابة الحديثة منذ عقود.
والآن؛ لنقرأ مثلاً في رواية “كبابيل الآخرة” للشاعر والروائي التونسي (عبد الوهاب الملوح) : “هكذا لم أر الليل يهبط بيننا، لم أره يكنس الماء وهو يراود عزلتنا وغبطة الجدران، رأيت المكان يذكرني بها، تجلس على حافة الاشتهاء يضطجع الحلم حجرها، ص 35”
ومثل هذا المسعى نراه يحضر بكثافة في المنجز السردي الحديث، والروائي منه على وجه الخصوص، الأمر الذي يعني أن الشعر يتقدم؛ ليزيد من مساحات الجمال في الكتابة السردية، بل ويساهم في في تقدمها فنياً ورؤيوياً بعيداً عن الآراء المنحازة انفعالياً للأجناس.