أنثويّة الرواية

ثقافة 2019/07/24
...

محمّد صابر عبيد
 
يؤثرُ عن المتصوّفة أنّهم كانوا يقولون: (المكان الذي لا يؤنّث لا يعوّل عليه) تعبيراً عن قيمة الفضاء الأنثويّ في الحياة، إذ حين يخلو المكان من هذه الحساسيّة الأنثويّة وهي تسهم في ترطيب المكان وأنسنته وضخّ طاقة عاطفيّة كبيرة فيه، فإنّه يتحوّل إلى صحراء قاحلة لا يمكن التعويل على إمكانيّة حضور الحياة الطبيعيّة فيها، فكيف إذا تحوّل الأمر نحو الإبداع الذي يتحرّك أصلاً في عالم العاطفة والوجدان والخيال، عندئذٍ سيكون فضاء التأنيث ربّما هو الفضاء الأهمّ والأكثر حيويّة في منح النصوص قيمة تعبيريّة وتشكيليّة وجماليّة أعلى.

الرواية هي النوع السرديّ الأكثر استجابة لحضور الفضاء الأنثويّ في أنساغها ومفاصلها وحيواتها وتشكيلاتها الفنيّة، فهي تنطوي على مساحة سرديّة واسعة على مستوى عمل العناصر السرديّة الأساس في فعاليّة التشكيل النصيّ، وربّما يستحيل وجود رواية بلا أيّ حضور لشخصيّة المرأة فيها مهما كان الموضوع والتوجّه والفكر ذكوريّاً، لأنّ الحياة نفسها التي يستقي الروائيّ منها أحداث روايته لا تستقيم من دون حضور طَرَفَي الحياة (المرأة والرجل)، بمعنى أنّ الرواية التي تنحّي الأنثى من فضائها ستكون غير قابلة للتصديق من مجتمع التلقّي فلا تكون عندها محطّ احترام القارىء، وهو ما يُوجِب استحضار الفضاء الأنثويّ عن طريق حضور شخصيّة المرأة بوصفها منجم الحسّ الأنثويّ الذي تتغذّى عليه الرواية بقوّة.
إنّ شخصية الأنثى في الرواية كما هي شخصيّتها في الحياة، هي العنصر الكفء لشخصيّة الذكر مهما كانت هيمنته على مقدّرات الحدث الروائيّ وعناصر التشكيل السرديّ الأخرى، وقد تكون شخصيّة الأنثى في الكثير من الأعمال الروائية شخصية قادرة على قلب موازين السرد رأساً على عَقِب، ولاسيّما حين تكون شخصيّة رئيسة ومركزيّة تتحكّم بمقدّرات الحادثة الروائية وتسيّر الشخصيات الأخرى على وفق مساراتها السردية، فضلاً على إشاعة الإيقاع الأنثويّ والحساسيّة الأنثويّة والخصوصيّة الأنثوية، وحتى لو كانت شخصيّة ثانويّة فإنّ تأثيرها على مستوى الحضور الأنثويّ سيكون بالغاً ومؤثّراً وفاعلاً بفضل طاقتها الضوئية الأصيلة.
تعمل الأنوثة في سياق مركزيّ من سياقات تأثيرها على الرواية بوصفها طاقة خلاقة تسهم في ترطيب السرد وتليين حركة الفواعل السردية، ويتجلّى ذلك في عمل شبكة العناصر التي تتقدّمها الشخصيات في علاقاتها المتشابكة الملتحمة، ودور الشخصيّة الأنثوية النسيجيّ في بناء حراك سرديّ بين شخصيّات الرواية جميعاً فهي شخصيّة رابطة على مستوى الوظيفة والتفاعل، وتبقى مؤثّرة على الأصعدة كافّة من بداية السرد الروائيّ حتى نهايته في طاقة تتمركز حول الأفعال والمشاهد والرؤيات بلا توقّف.
تختلف شخصيّة الأنثى الروائيّة استناداً إلى هُويّة مؤلّف الراوية الجنسيّ ذكراً أم أنثى، إذ تأتي صورة الأنثى لدى الروائية المرأة على نحو مغاير تماماً لصورة الأنثى لدى الروائي الرجل لأسباب كثيرة ومتنوّعة يتعلّق معظمها بالحساسيّة الكتابيّة لدى كلّ منهما، فضلاً على زاوية النظر وطبيعة الرؤية السرديّة والدفاع الذاتيّ الضمنيّ عن الهُويّة وطرائق الترويج الكتابيّ لجنس الكاتب، وعوامل أخرى نفسيّة وثقافيّة وميراثيّة وتاريخيّة وحتّى دينيّة تحتشد كلّها في سياق واحد كي تعمل في النهاية على صناعة الشخصية الروائية في صورة معيّنة.
الحضور المهيمن للأنثويّة في الوجود البشريّ يجعل العمل الروائيّ مرهوناً بحساسيّة سرديّة خاصة يكون فيها هذا الحضور مركزيّاً، ليس على صعيد الشخصيات فحسب بل على صعيد مختلف الشواغل السرديّة البانية للفضاء الروائيّ بما يجعل الرواية حاضنة أنثويّة أصيلة، وتسهم هذه الحاضنة في بثّ أنوار سرديّة تنتشر على مساحات الرواية وتضاريسها ومنعطفاتها وأجوائها لتسمها بميسمها وتصنع إيقاعها.
يكشف الفضاء الأنثويّ في الرواية عمّا يمكن الاصطلاح عليه (الإيقاع الأنثوي)، وعلى الرغم من أنّ فكرة هذا الإيقاع تبدو غامضة بعض الشيء بحكم أنّنا تعودنا على ربط الإيقاع عادة بالوزن الشعريّ أو حساسيّة التطريب الظاهرة في المسموعات، غير أنّ مفردات الحياة الأخرى لا تخلو من إيقاعات خاصّة حين ننجح جيداً في عملية الإصغاء لها بعمق ورهافة، والإيقاع الأنثويّ هنا يرتبط بإيقاع السرد الذي يتجّلى في القصّة والرواية على نحوٍ خاصّ ويحتاج إلى طبيعة استقبال بالغة الخصوصيّة لإدراكه وتمثّله، ولعلّ ارتباط الأنوثة بالسرد يحمّله إيقاعاً نادراً يُتلمّس من نعومة اللغة وسيولتها ونداوتها وانشغالها بالأفعال والحراك المستمرّ، وهو جزء أساس من أسلوب التفاعل القرائيّ بين السارد والقارىء حين يشتركان بالانغمار داخل وسط سرديّ إيقاعيّ واحد.
يشتغل إيقاع السرد الأنثويّ في مساقات مركزيّة من مساقاته على فرض الإرادة الأنثوية بآليّاتها الناعمة وهي تتقصّد صورة من صور العفويّة، وتشحن أسلوبيّة التعبير بحساسيّة مرهفة ورخوة ذات طبيعة صوفيّة لا يستطيع المتلقّي تجاوزها أو تنحيتها أو إهمالها، في الوقت الذي لا يغفل إيقاع السرد الذكوريّ عن اقتناص حصّته من ذلك ضمن نوع من الحرب الإيقاعيّة الباردة والناعمة بين الإيقاعين السرديين داخل العمل الواحد، إذ لا بدّ وبحسب حاجة الفضاء السرديّ ومقتضياته البنائية في الرواية من التفكير بقدرٍ مناسبٍ من التوازن بين الشخصيات الذكورية والأنثوية في الحضور السرديّ التشكيليّ، لأنّ أيّ تغليب لأحدهما على الآخر (خارج قوس الحاجة السرديّة الضرورية) يؤثّر سلباً على المعادلة الإنسانية بين طرَفَي الحياة الطبيعية وينحرف بالحادثة السردية إلى مسارات مرتبكة، ولا شكّ في أنّ طبيعة التجربة في كلّ رواية تحدّد مستوى الحضور الذكوريّ والأنثويّ ودرجة التفاعل بينهما وانعكاس ذلك على مجمل العملية السردية فيها، لكنّ وعي التوازن من الناحية الفكرية والمنطقية ينبغي أن يكون متاحاً أمام الصانع الروائيّ كي يتصرّف به على النحو المناسب
 المطلوب.