«سلمون عراقي» بين طواف المدن البعيدة والعودة إلى الوطن

ثقافة 2019/07/26
...

صبري الحيدري
بلا شك، جميعنا نكره الحرب ونكره المولعين بها والمؤججين اوارها فالحرب هي تفريغ للمجتمع من انسانيته ومن صلاته الحميمة، ولعل الحرب العراقية الايرانية، وما تبعها من اجتياح أو غزو الكويت ثم الحصار، مروراً (وليس أخيراً) بغزو العراق عام 2003 واحتلاله بالكامل، كل هذا شكل مرجعاً مهماً وأساسياً للقاص والروائي (فاضل عبد الله القيسي)، ولروايته (سلمون عراقي) التي تؤرخ للحرب والحصار والاحتلال، وتتنفس من مناخها المأساوي والثقيل الذي مازال جاثماً على صدر العراق والعراقيين، لقد أبدع لنا القيسي نصاً روائياً، أسهم في كشف الحقائق التأريخية والإنسانية ليغطي حقبة امتدت منذ عام 1980 – 2003 اشترط لها التاريخ المر والقاسي، ان نحيا بها، أو نتناسل كشعب وأفراد في فضاء موحش من الموت والخراب والدم والنفي والجهل والعوز والظلام.. كل هذه المفردات التي ذكرناها تنطوي على (بنيات هدم)، للوطن والإنسان، وأعني بالإنسان كل الشخوص التي تخيلها ومدها (فاضل عبد الله القيسي) بالنبض والحياة، سواء من واقع افتراضي متخيل أو حقيقي معاش، وأولهم بطلها المحوري (فؤاد سلطان) المثقف واليساري، خريج الإدارة والاقتصاد القارئ لبروست وكامو وبارابوس واليوت ونيتشه وكافكا إلخ.
إن الثيمة الأساسية والعميقة في نص فاضل عبد الله القيسي « سلمون عراقي ، الطبعة الأولى، القاهرة، 2018، دار الروافد للطبع والنشر»   هو أن يجلد ذوات ابطاله، ويصغر من حجمهم إلى حد التهافت والغاء كينوناتهم والازدراء منهم في الداخل العراقي، أو الخارج في المنافي، ففي الداخل الأم شبه عاقلة شبه مجنونة تكرس وقتها في خدمة الولي صاحب الكرامات (عبد الله اليتيم) الذي زارها في حلم ميلودرامي، لتشيد له مزاراً على قطعة الأرض التي تمتلكها، كذلك هي تنتظر عودة ابنها (يحيى) الذي قتل في الحرب العراقية الايرانية، أما الخال (صابر) فيكتفي القيسي بوصف قامته الضئيلة ص5 فيما (سعاد وهند) فهما أنصاف بغايا وعاهرات، والشيخ (عدنان الجاسر) الرجل الستيني يعاني الحول في عينه اليسرى الذي (يشتد كلما حاول أن يركز بصره) ص20، والذي يصر أن من نعم الله عليه أن جعله بهذه العاهة وإلا قتل في الحرب، حتى أن استشهاد الجندي (ستار) يتحول في الرواية والجنود ملتفون حول جثمانه في الملجأ إلى مزحة أو دعابة، يقول سامر: (كنيته السمين) : (ستار كان أخاً لنا جميعاً .. وعليه سنكمل اللعب(لعب الورق) وعلى أحدكم يكمل اللعب بديلاً للمرحوم ستار وأن يتحمل خسارته) ص33، كذلك يهشم (القيسي) الشخوص الى تركت الوطن إلى المنافي البعيدة بشتى النعوت القاسية ويقرنها بالخيانة والعمالة وبالحضيض والعهر والظلام، كأبو ناجي النصاب الذي يعمل على معالجة المرضى بالطب النبوي والأعشاب والسحر وكتابة التمائم (اكمالاً للسخرية من فؤاد الذي يصنع له أبو ناجي تميمة تقية – لكن من دون جدوى – من الكوابيس، أم ماهر، امرأة متقدمة في السن، لاجئة من العراق إلى الأردن، تتخذ من بيعها السجائر ستاراً لمهنة القوادة التي تمارسها عبر شبكة من العاهرات، (ولمزيد من ادانة القيسي لها) يحولها إلى مومس ذات شبق خاص تطالب فؤاد وهو يضاجعها أن يشتمها بصوت عالٍ ويسمعها كلمات داعرة ) ص319. ورافد وهو من دعاة الطائفية رغم أنه لا يمارس الطقوس الدينية إلا أنه يقطر سماً طائفياً (بحسب ونعت القيسي له) ص360، كذلك يعمد (القيسي) أن يقدم من شخصية فؤاد سلطان نعته المغبون (فيما بعد المحظوط)، الذي يبرر هروبه وفق صورة كاريكتورية من أن فؤاد يتحمل الموت (خوفاً من أن يتقاسم الجنود ذخيرته من السجائر وشفرات الحلاقة)، ص44.
كذلك تكون الأحلام والكوابيس مادة حية للقيسي وأن يوظفها خدمة لأغراض النص، والكوابيس التي تنتاب فؤاد كثيرة وترافقه اينما حل، في وطنه أو في المنافي، وهي رصد مشوش ورؤى لضبط ما تحمله الحالة الخاصة به، فهي تحمل دلالات رمزية للمكبوت والمقموع حيث تتفجر طاقة قوية في لغة (القيسي) وأن بدت هذه الأحلام / الكوابيس صعبة الإمساك بها كاملة أو واضحة كما هو شأن الحلم / الكابوس الذي يتبخر في الذهن سريعاً إلا أن القيسي استطاع ترتيب وتوجيه أكثر الكوابيس في اثراء ما يود طرحه في النص، باعتماده على علامات وشفرات واشارات تدين بطله أولاً ثم السلطة التي اجبرته على ترك مكانه الصحيح، وفي عملية جرد احصينا مادة (حلم / كابوس) تبين لنا أن أغلب الكوابيس اسست على موضوعة وثوابت السلطة (الأكثر شراسة) وعلى القمع السياسي والقهر أو الحرمان الجنسي وحتى اللواط وزنا المحارم والكف الضاغط من الأعلى إلى الأسفل (صديقه عايد) بلغت أكثر من (11) كابوساً. 
بقت لدي كلمة أخيرة، أود من الروائي (فاضل عبد الله القيسي) أن يفتح صدره لي ولها : ثمة أحداث وتفاصيل كثيرة متشابهة ولا تخرج عن الإطار اليومي العام، يعرفها القيسي تماماً، مثل هذا يعرقل ويرهق نمو وتصاعد السرد إلى غايته أو مبتغاه، كذلك – وهي العقبة – يفرغ نص الرواية من محتواها الأصلي، كما أنها تشتت ذهن وانتباه القارئ وتشعره بالاحلال. رغم سعادتي بهذه الرواية التي اطمئن لها إلى مبدعها الروائي فاضل عبد الله القيسي.