22 عاماً على رحيل شاعر العرب الأكبر

ثقافة 2019/07/27
...

البصرة/ صفاء ذياب
عاشت القصيدة العربية حيوات عدّة منذ بداياتها ما قبل الإسلام مروراً بالمراحل التي تطوّرت فيها على يدي الكتّاب الأمويين والعباسيين وصولاً إلى العصر الحديث، هذه القصيدة التي يؤكّد أغلب النقّاد أن الشاعر محمد مهدي الجواهري قد استوعب كل تطوراتها وصبّها في قصيدته.
فالجواهري الذي ولد في الـ26 تموز من العام 1899 ورحل في الـ27 من تموز العام 1997 كان مثالاً للالتزام بكلاسيكية القصيدة العربية، على الرغم من محاولاته التجديد في شكل القصيدة، لاسيما في قصائد مثل (أفروديت) و(لمّي لهاتيك لمّا) وغيرهما من القصائد، مقترباً بذلك من روح العصر.
إلا أن التساؤل الذي يمكن أن نطرحه هنا: ما الذي بقي من قصيدة الجواهري في روح الشعراء الجدد؟ وكيف يمكن فهم التحوّلات التي طرأت على القصيدة العربية بعد الجواهري؟
 
عمل إصلاحي
يشير الشاعر عبد الزهرة زكي إلى أنه على الرغم من رحيل الجواهري، غير أن هناك جانباً مهماً من عمله سيبقى حيّاً في تاريخ الشعر العربي خلال القرن العشرين. إنه أحد آخر الورثة الماهرين في هذا الشعر بتقاليده الأصولية. مضيفاً: الجواهري مزيج من عمل إحيائي وإصلاحي في الداخل من تلك التقاليد الأصولية، وهذا ما يجعله في الطليعة بين عدد محدود من شعراء الإحياء العرب، بدءاً بشوقي. اللغة الشعرية التي تراوح ما بين قاموس الشعر القديم وقاموس آخر للعربية المعاصرة تسمح لمحبي الجواهري بتأكيد تلازم النزعة الإحيائية بأخرى إصلاحية. هذه قيمة فنية تاريخية تمنح الشاعر هويته، وتترسخ الهوية مع كون شعر الجواهري يظل في مآله الأخير بعضاً من تاريخ الحياة والوقائع، الانكسارات والتطلعات، في التاريخ الوطني للعراق.
ويبين زكي أنه كان يمكن للجواهري أن يندفع أكثر بعمله الإصلاحي فيما لو كان اجتهد بتطوير نمط من عمله الذاتي، كما في (مرحبا أيها الأرق). وهذا عمل كبير خرج به الجواهري في السبعينيات في غمرة اقترابه وتفاعله مع التحديث الشعري العربي في ذروة انجازات هذا الشعر في السبعينيات. كان يمكن للجواهري تطوير هذا بالتركيز عليه، لكن في الشعر ليس بالإمكان القول (كان يمكن)، الشعر هو ما يتحقق فيه ويتجسد كنصوص.
 
روح الشعر
ويعتقد الشاعر الدكتور عارف الساعدي أن الجواهري من أكثر الشعراء الذين ظُلمتْ قصيدته بسبب شخصيته الطاغية على كل شيء بما فيها الشعر، وحتى حين نستشهد بشعر الجواهري فإننا نستشهد به لسبب اجتماعي أو سياسي أو موقف ما، وبهذا يحضر الجواهري المعترض والمتمرّد والسياسي ولكن يغيب للأسف الجواهري الشاعر الذي كتب نصوصاً لا غرض من ورائها إلا الشعر، وهذه النصوص اختفت خلف الصوت العالي للجواهري ولعشاقه الذين يذوبون في شخصه ويحفظون النصوص التي تعالج شأناً عاماً، ولكنهم لا يلتفتون لنصوص لا شيء فيها غير الشعر، وكُتبتْ لا لغرض محدد، إنما وظيفتها الأساس هو الشعر، فاختفت البلاغة المعهودة لديه لتحل محلها بلاغة المدينة وبدأ يتنازل عن فخامة الأسلوب ليحل محله نسج مغاير.. فهذا ما سيتبقى من الجواهري الشاعر، أما الجواهري السياسي والهجاء والوطني فستبقى كل النصوص التي تحفظها الناس وتستشهد بها ولكنها للأسف ليست شعرية.
 
خيط ناظم
ويؤكّد الدكتور علي حسين يوسف أن الجواهري ما فتئ يأسرنا بكلِّه؛ بشعره وحذاقته ولغته ووطنيته وكارزمته وشجاعته؛ وهذا ما يجعلنا نفكّر أحياناً في كيفية الخلاص من هيمنة مثل هذه المخلوقات الاستثنائية كي نزيح ستار الافتتان لنرى الأمور بوضوح, فهو أقرب إلى التوصيف حين نسم الجواهري بكل هذه السمات. الجواهري معادل موضوعي لمائة عام كاملة. وفي الوقت نفسه فإن الجواهري لم يكن وريثا للمتنبي وحده، بل كان مستوعَباً لأروع ما في المدوّنة الشعرية العربية وكان أيضا امتداداً حيَّاً للشعر العربي برمته، برغم تحولات الشعرية العربية والعراقية خاصة وتمرحلها زمنياً وتجنسياً بدءاً من شعر التفعيلة ومروراً بقصيدة العمود الجديد وانتهاء بقصيدة النص الحديث، إلا أنه كان خيطاً متيناً ناظماً لتفصيلات تلك الأنواع كلها، وكان في الوقت ذاته مرجعية مؤثرة تسربت بغزارة إلى لا وعي أجيال الشعرية العراقية المعاصرة.
 
أسلاك الواقع
وتبيّن الشاعرة أفياء الأسدي أن الجواهري ما زال ذلك الصوت المتفرّد عالياً ونحن نقرأ ما أخذه على عاتقه من تأريخ كل الأحداث السياسية والاجتماعية التي كانت حوله، فبتنا نعرف ما مضى من خلال قصيدته، وإذا ما تساءلنا عن حدث ما، نبحث عن جوابه في مدوّنات التاريخ ومنها الوثائق التي تركها لنا في قصائده الحيّة. وهذا فضل على التاريخ السياسي والاجتماعي ناهيك عن الأدبي. و ما حصل من تحوّلات شِعرية في ألوان الشِعر فهو لا يأخذ شيئا من مكانة (الجواهري) بالتأكيد ولا أظنّه كان ليعترض على هيكل ما إذا كانت القصيدة شاعرة، فهي نتيجة بيئة الشاعر ومحيط أحداث مجتمعه. وقد جرّبنا قراءة نثر الجواهري في كتاب (ذكرياتي) بعد أن سُجّل بصوته على (كاسيتات) بين عامي ١٩٦١-١٩٦٨ في براغ ثم طُبع في دمشق وكان رائعاً.
وتضيف الأسدي أن شاعراً بحجمه لا يفضّل الهيكل على المضمون ولا يعارض التجديد أو التلوين لأنه صوت الشارع، فنراه يمدّ أسلاكاً قوية بين الواقع والقصيدة كما مدّ جسراً بين الذي كُتِب قبله وبين العصر الذي عاشه حتى وصل إلينا بهذه القوة الشِعرية عالية المكانة .
 
 معيارية الجواهري
وبحسب الشاعر كريم ناصر، فإن شعر الجواهري يخضع لبنية لغوية سياقية، وفي صلب هذا الموضوع يكفينا أن ندرج الشعري النمطي ضمن هذه الآلية نظراً إلى تراكيبه اللغوية التي لا يمثّل الابتكار جزءاً من منظومته اللغوية، فقد تحمل أفكار الجواهري قيماً جمالية ولغوية ودلالية وفنية، هذا أكيد، لأنَّ الرجل كان شاعراً بامتياز، ولكن تبقى قصيدته في الظاهر معيارية محافظة على كينونتها ولا تتعدّى الموروث، وهذا ما يؤدّي إلى انتزاعها من سياقها الحداثي الذي يجب على أيّة حال أن يواكب الحضارة ويؤيّد مفاهيمها التي تصنعها صيرورات ثقافية تضطلع بها اللغة في نطاق الحداثة. موضحاً أن الواقع يكشف لنا بالطبع ازدهار جماليات الشعر، وقصيدة النثر أنموذج دلاليّ لهذه الرؤية على خلاف ما كان عليه الشعر العمودي بوصفه تكراراً حرفياً لأنماط سبقته كانت في الواقع كليشيهات مهلهلة وميتة، وقد يندر من هذا المنظور أن نرى شاعراً كالجواهري يرسم جغرافية أدبية لمشروع  قلّما نافسه شاعر في فيه... إنّ أيّةَ قراءة نقدية للواقع تؤكد أنّ تطوّر الشعر يبقى رهن تحوّل جذري يحصل بداهة في بنيته اللغوية أو في أنساقه الجمالية ليصبح منهجاً للتحرر من ربقة الماضي ومن قيوده.
 
تغيّر الذائقة
في حين يعتقد الشاعر أحمد الشطري أن لكل مرحلة زمنية  صيغها الخطابية التي تؤثر في المتلقي، وفقاً لتغير الظروف المؤثّرة والمتأثّرة بالأحداث المحيطة، وتبعاً لذلك فإن الذائقة أيضاً تخضع لتلك المتغيّرات، وإذا كانت حركيّة التغير في الماضي تتم بشكل بطيء، فإن حركة التغيّرات في القرنين الحالي والمنصرم باتت تتم بسرعة هائلة، وهو ما شكل إرباكاً في تغيّرات الذائقة، وهو أيضاً ما أوجد تداخلاً بين فئات المتلقين، حتى بات من الصعوبة تحديد كمّ المتفاعلين مع أساليب الحداثة  في الشعر، وكمّ المتفاعلين مع الأساليب الموروثة، ومن هنا فإن قصيدة الجواهري تبقى فاعلة ومؤثرة، سواء لما تمتلكه من جماليات فنية، أو لما تمتلكه من مؤثرات ايقاعية، إلى جانب وثائقيتها لمرحلة تاريخية مهمة، مليئة بالصراعات والمتغيرات، ليس على صعيد العراق وانما على صعيد المنطقة العربية.