(معزوفة) طهمازي بين التاريخ والحاضر

ثقافة 2019/07/27
...

عبدالزهرة زكي
يأتي آخر عمل شعري للشاعر عبد الرحمن طهمازي بعنوان (المعزوفة). وتبدو المعزوفة في هذا العمل كما لو أنها صدى ريح متضاربة تمضي في الاتجاهات كلها فتحمل في عصفها الأشياء كلها مما تصادفها وما لا تصادف، مما تأتي به الذكرى ومما ينوء به العقل، وما قد يضطرب به الخيال.
هذه المعزوفة (وقد نشرت في 11 تموز بجريدة الزمان) ليست بالغريبة، فنياً، على عموم الفحوى الشعري الذي كرّسه طهمازي طيلة عقود وتكرّس هو به.
دائماً كانت نصوص طهمازي، الطويلة منها بشكل أخص، تقدم أمثلة مختلفة ومتطابقة عن (معزوفة) تتراكب فيها التعارضات وتتصادم، تتسق حيناً، ولا تنتظم حيناً آخر، هذا اللا انتظام هو بعضٌ عضوي من معزوفة لمؤلف أوركسترالي هو ذاته لا يمكن استبصار نظامه ولا نظامه إلا بقدر ما يكون الإصغاء منسجما بطبيعته الوجدانية مع النظام واللا نظام الموسيقي في أية معزوفة لمثل هذا الفنان، في أي عمل شعري طويل لعبدالرحمن طهمازي.
هذا نمط من الأعمال، في الشعر، تتعدد فيه، بالنص الواحد منه، المراكز. يتركب هذا النص من وحدات، وحتى أحياناً من جمل، تبدو أنها تسعى للتخلص من أية مركزية نصية، من وحدة القصيدة، لكنها تلتئم على مراكز متعددة، وما النص أخيراً إلا جوهر واحد تتماسك مراكزه، المتعددة والمتضاربة، بكليته، ومتشظٍّ بتنوعه. لقد جرى مرّة فهم مثل هذا التصور، حين تحدثت به عن جانب أساس من شعر سركون بولص بمناسبة عابرة سابقة، على أنه تعريض بتجربة الشاعر الراحل، سركون بولص، أو أُريد تقييد التصور بهذا (الفهم). كانت الاعتراضات، الجاد منها، تنطلق من تصوّر الحداثة الشعرية العربية، بطورها الأول، وهو تصوّر لم يعد جديداً، كان يقيم نموذجه الشعري الحديث كمقابل ومعارض لوحدة واستقلالية البيت الشعري في القصيدة العربية القديمة، فيما كان تصوري يذهب (سابقاً عند الحديث عن سركون وحالياً مع مناسبة قصيدة طهمازي) إلى محاولة فهم مثل هذه النصوص بما هي عليه، بطبيعتها الأقرب إلى نماذج ما بعد الحداثة القائمة، بجانب منها، على مبدأ التشظية لا التمركز.
(المعزوفة)، العمل الشعري الجديد للشاعر عبدالرحمن طهمازي، توفّر مناسبة حيوية  للوقف بجانب منها على تجربة الشاعر الذي كثيراً ما جوبه شعره بأنه عصي على (الفهم). تعقيدات بناء نصوص طهمازي، وتداخل مستويات التعبير فيها، واعتناء الشاعر بلغة تمتزج فيها لغة التفاصيل اليومية بأخرى قادمة من كتب التواريخ والسير والفقه وسواها من آثار التراث الأخرى، هذه كلها بعضُ ما يمكن أن يكون من مبررات الشكوى من تعقيد البناء النصي الشعري لطهمازي. لكن الشعر ليس موضوعا للـ (فهم). الشعر موضوع للإدراك العاطفي والوجداني قبل أن يكون موضوعاً قابلاً لـ (فهم) آخر هو ليس الفهم النثري المباشر وإنما الفهم الذي هو قرين الادراك الحسي والوجداني. هذه عادات قرائية تنتظر من الشعر دوراً إرشادياً وتعليميا، فيما قراءة الشعر مشاركة وجدانية، تحصل أو لا تحصل، بموجب مؤثرات كثيرة تقدمها النصوص نفسها مرة وتفرضها طبيعة وعي القارئ مرة أخرى وصلته بالشعر وأساليب قراءته.
قصيدة (المعزوفة) تقدّم تجربتها بتركيبٍ معقد فعلاً. إنها قصيدة تريد تبرير طولها عضوياً لتتفادى رتابة الايقاع وتتحاشى ما يمكن تحاشيه من نمو غير منضبط للغة والحكي في النص. وبهذا فالقصيدة تعطي مبرراً لانتقالاتها وابتنائها من وحدات تعبيرية تكاد تحظى باستقلال تام عما يسبقها وما يليها هو نظير استقلال البيت الشعري العربي القديم في القصيدة القديمة. لقد أتيح لي حضور أكثر من مناسبة كان فيها طهمازي قارئا لشعره، وكانت قراءة طهمازي لنصوصه تؤكد أن التحولات والتغيرات وتعدد الأصوات وحتى طبيعة اللغة المستعادة من التراث هي من أعمال توصيل الشعر قراءةً وإنشاداً حتى والشاعر يكتب قصيدة نثر. ايقاع قصيدة النثر بالنسبة لنصوص طهمازي هو ما تعبر عنه هذه التغيرات الفنية الكثيرة في النص الواحد عبر تراكيب مختلفة. ومن مستويات هذا التركيب سيلاحظ القارئ تحولات الخطاب في القصيدة. إنها قصيدة قائمة على هذه التحولات.  تبدأ القصيدة بالحديث على لسان الشاعر الراوي وهو يركز على لحظة، هي ذاتها لحظة مركبة ما بين انفلات المعزوفة من السماع واستحواذها على صمت الاصغاء :
ـــ ها هي المعزوفة تفلت من الاسماع على حين غرَّة وتستحوذ على صمتنا.
ثم يتحول الصوت لمخاطبة الجماعة:
ــ تطلبون الصراط الذي يستقيم ولا تستقيمون.
فمخاطبة المفرد:
ــ تباً لك يا خصيم السياسة والطفولة الجانح.. أهذا وقت اللهو ايها الفاحش.
لكن القصيدة تنعطف فيجري تسليم الحديث فيها إلى المعزوفة نفسها وهي تخاطب الجماعة:
ــ تنفست المعزوفة لماماً منصرفة الى البقاء على ماهي عليه/ من النجاة في الرمق الأخير من الحياء الفاشل : خذوني/ الى بيوتكم، ولا مندوحة لكم من ذلك.
حتى تنتهي من هذا الخطاب العام إلى نداء موجه لابن عربي، الصوفي، وقد استحال بموجب هذا النداء النصي، بتغيير لافت، بتعريف (عربي) وتحويله إلى (ابن العربي):
ـــ أين عقلة المستوفز، وأين أين البليبلان يا محيي الدين يا ابن العربي، أين …؟
في موضع آخر يظهر حوار متعدد الأطراف كهذا:
ـــ  أين وليتم بوجوهكم يا شعراء الأصقاع.
 – شطر السجون الشاسعة.
–  وانتن ايتها النوادب العربيات
 – نحن نتناظر للفوز بجوائز الميّتين والله هو مولانا وعليه التكلان.
ويعود الخطاب حينا فيتحول على لسان الراوي الشاعر موجها لمفرد غائب:
ـــ فبالله عليك يا رفيقي انظر ما تحتنا/ أهو بساط سليمان أم حمار نصر الدين.
ـــ يا عازف : اهمس لعودك باللغز.
ـــ أيها التراث الخالد سيزيدك التهذيب تواضعا وخصبا أمام الوصية التي تزينها المرونة، ألم تسمع :” أثيروا القرآن”
وهذا التعبير (أثيروا القرآن) مأخوذ من عبدالله بن مسعود:” من أراد العلم فليثوّر القرآن”، وفي رواية أخرى “أثيروا القرآن” فإن فيه خبر الأولين والآخرين.
التحولات في الخطاب متعددة بما يعزز تماسك النص حينا وبما يغني أهداف التعبير ضمن مركزية المعزوفة في جسد القصيدة ككل. إنها قصيدة تظل في مراوحة  دائبة ما بين التاريخ والحاضر.
القصيدة يتصدرها تقديم مستعار من المفكر الانكليزي روبن جورج كولينجوود، توفي عام 1943 وهو فيلسوف وعالم آثار ومؤرخ ومشتغل في مبادئ الفن. يقول التصدير:” التاريخ هو الحاضر”. وهذا تصدير يحظى بمركزية مهمة في بناء القصيدة وموضوعها، آمل أن تتاح لنا مناسبة الوقوف عنده في الأحد المقبل.