الوعي بالحداثة

ثقافة 2019/07/28
...

     د. كريم شغيدل
إنَّ النخب العربية سرّبت لمجتمعاتها تخوفاتها بإزاء الحداثة وأعطت انطباعاً ثقافياً سيئاً عنها، على مختلف المستويات، الشعراء سواء أكان ذلك بتمسكهم بالموروث الشعري أو باحتجاجهم على التجديد أم بنبذهم المطلق للتراث ومحاكاة الغرب، أم كان ذلك بالارتداد عن التجديد، أمّا المفكرون فالحداثيون المعاصرون (بشقي الحداثة الفرانكفونية والأنكلوسكسونية) فقد وقعوا في الفخ ذاته الذي وقع فيه النهضويون وهو اللهاث المستميت نحو التغريب من دون النظر للمعطيات الحضارية العربية، معتقدين أنهم يضعون أنفسهم في سياق الحضارة العالمية.
 
فلم ينالوا غير التهميش والعزلة عالمياً ومحلياً – كما يذهب (محي الدين اللاذقاني)- لأنهم عجزوا "عن عقد أواصر تلك الصلات التي لا تنفصم ولا بالمستطاع إنكارها بين الموروث الحضاري والتطلعات المستقبلية لكل ثقافة طموحة"، فقد لعب الإصلاح الديني النهضوي دور التوفيق بين تراث العصر الذهبي الإسلامي وتراث الغرب بإسقاط بعض المقولات والمفاهيم الغربية على طريقة تفسيرهم للتراث كما يرى غيريغوار مرشو، واعتاشت الأطروحة اليسارية على يوتوبيا الحلم الشيوعي في الاشتراكية. 
ووجدت النزعات القومية في بعض المقولات الفلسفية والاستشراقية غطاء للحماية ومبرراً للوجود وقد تجلّت هذه النزعات بدعوات "الفرعونية والقومية السورية والفينيقية(المارونية) والبربرية (في المغرب العربي)"  كما يرى برهان غليون، أما دعاة القومية العربية الذين سعوا لتأسيس "الدولة
 القومية". فقد أنتجوا أسوأ نماذج الدكتاتورية والاستبداد الحزبي، ولم تكن فكرة "القومية العربية" أطروحة أصيلة، مهما ادعى دعاتها، بل هي خليط من التأثر بالفكرة "الطورانية" التي ظهرت أواخر الحكم العثماني، وبالنزعة القومية العنصرية التي تأسست في ضوئها "ألمانيا النازية" ومن الفكر اليساري الاشتراكي "العلماني" وشيء من الليبرالية العلمانية وشيء آخر من الفكر الإصلاحي في انبعاث الأمة، وهذا الخليط غير المتجانس قد تمّت صياغته بشعارات فضفاضة وخطب رومانسية تفضي إلى مجموعة أوهام عن الواقع العربي الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال فرض "وحدة" قسرية عليه، أو إقامة ما يسمى بـ"التكامل الاقتصادي" في غياب التكافؤ، مثلما لم يتحقق فيه ولو ملمح اشتراكي واحد، على الرغم من القاعدة العريضة لدعاتها يساراً ويميناً.
وقد أثبت دعاة "القومية العربية" أنهم أسوأ من يصادر حرية المجتمع ويمارس القمع والاستبداد وأفضل من يشوّه مبادئ الديمقراطية إذا ما سنحت الفرصة، وشيئاً فشيئاً انحسرت فرص الليبراليين العرب من نهضويين وإصلاحيين وحداثيين، وإذا ما توفر هامش لهم فإنهم لم يجدوا بديلاً عن استعارة الأيديولوجيا العلمانية الغربية بصورة جاهزة، بدءاً من اقتباس مقولات ومفاهيم عصر الأنوار وانتهاءً بما بعد الحداثة
 والعولمة.
     إنَّ المجتمعات والنخب العربية عاشت حالات متعددة من الفصام الحضاري، وما تزال وستبقى ترث هذا الفصام، بسبب صرامة المكونات التقليدية للمجتمعات من ناحية، ونخبوية الثقافة وتعالي النخب العربية على الواقع العربي من ناحية
 أخرى. 
فالثقافة العربية ما تزال أسيرة حالتين من الاغتراب: الأولى باتجاه الغرب: شكلاً: باللهاث وراء الموضات والصرعات الموسمية الغربية ونزعات التمرد في الفكر والفن. 
ومضموناً: بالقطيعة التامة، ليس مع الماضي العربي فحسب، وإنما مع الحاضر بالتنصل عن مشكلاته وإخفاقاته الحضارية. أمّا الثانية: فهي باتجاه الماضي: شكلاً ومضموناً، وربما أنتج الصراع بين هاتين النزعتين نزعة ثالثة هي حالة من التوفيق بين حالتي الاغتراب بتبادلات وتوظيفات يغلب عليها طابع الركود وغياب المشروع الإصلاحي- الحضاري الناهض.
    في العام 1983م أعلن (رايموند وليامز) بأنَّ زمن "الحداثة" الواعية قد انتهى، أفيعني هذا بأنَّ هناك "حداثة" واعية وأخرى غير واعية؟ ربما أراد بذلك الإشارة إلى "مابعد الحداثة" التي يرى فيها البعض حداثة معمّقة، وربما ألمح من قريب أو بعيد إلى نهاية عصر مركزية العقل، بمعنى آخر إنَّ الغرب يعيش حالة مراقبة معرفية مستمرة لحضارته وثقافته، وحالة نقد متواصل، ففي عمق الثقافة الغربية لا يوجد مقدس، كل شيء زمني ودنيوي
 وإنساني. 
القداسة مسألة شخصية على ما يبدو وليست أيديولوجية أو نسقية، فحداثة الغرب التي بدأت مع عصر الأنوار قبل حوالي خمسة قرون وأوصلته إلى ما هو عليه اليوم من قوة حضارية، تنتهي بكونها وعياً بحسب وليامز، ولكنها من المؤكد، لم تنتهِ إلى مجرد تاريخ صنمي تدور حوله حركة التاريخ الغربي، مثلما انتهى إليه العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، ذلك أنَّ حداثة الغرب تحوّلت إلى منظومة تاريخية لدفع عجلة الحضارة إلى الأمام أي أصبحت مجموعة أنساق توجه حركة المجتمع وتنظم علاقة المعرفة بالسلطة، بينما ماتزال الذهنية العربية بحاجة إلى الوعي بالحداثة. وللحديث
 صلة...