الكلمات بيوت

ثقافة 2019/07/28
...

 ياسين النصير
 

لا شيء يحد خيالك عندما تنطلق من أرضية راسخة للفهم، الكلمات بيوت، ليست فرضية خيالية، أو حلما باشلاريا، بل هي وقائع حقيقة نتعامل معها يوميا، كل كلمة هي خرج صياد، معبأ بها ما يصطاد، وقد تمتلئ الكلمة بالصيد، وقد تكون فارغة، تبعا لمهارة الصياد ووفرة الصيد. وليس بعيدا عن تأويل الكلمات، فالصور المؤولة تسكن بيوتا أخرى، وتنمو في أحشائها كلمات جديدة، فالكلمات أرحام الكلام، ومنها يولد ما نرويه وننسجه.
وأنا المعني بالمكان منذ أن بدأت، يأخذني  التفكير النقدي  إلى بيوت الكلمات، فصيّرت الكلمة بيتًا،عشًا، كهفًا، مغارة، مأوى، رحمًا، وكل ما يشتق من حروفها وتشكيلاتها كان أصواتًا، حتى لتحسب أن الحرف كما تصوره الصوفيون خزين من العلاقات المتساكنة بين اللغة والروح.
لاتولد الكلمات دون بيوت رحمية، ترعاها صغيرة ثم تكبر كي تخرج في نص أو شاخصة، تعين لك الطريق الذاهب إلى الحديقة. لا تولد الكلمات دون مغذيات قد تعطلها أو تغذيها أو تميتها، فالكلمة وليدة الحاضنة البيتية، لتصبح هي الأخرى بيتا لكلمات. كلمة النصوص لا يغشاها الموت، ولأن الكلمة حمالة أوجه، تشبعت بذاتها فامتلأت حتى تشققت، وأصبحت لها تجاويف ومجرات وسبل مبهمة، الكلمة تولد من أخرى لأن الأخرى حاضنة لغيرها، الفيض يأتي من كثرة الصور التي تنتجها الكلمات، ولذلك أصبحت رابطة بين مصير البشر والسماء، واستحقت إلى مفسر يعيد تركيب معانيها ثانية، فالبشر لايفهمون إلا الكلمة المباشرة التي عنيت بها التقاليد والتعاليم.
الكلمة الحبلى وحدها  تنتقل للآخرين، أما الكلمة التي تكتفي بذاتها فهي ميتة، وهكذا يولد التأويل من الكلمات البيوت التي نجهلها إلا متى ما سلطنا عليها أضواء الممارسة، وحين يصار إلى فهمها ستتمرد على كل تفسير، وتبقى منتظرة من يصيرها ثانية في قصيدة، إلى بيت..  إذا أردت أن تحيي كلمة ازرعها في تربة ، وإذا اردت أن تميتها اقتلعها ، كل كلمة لها ما يولدها، والبيت الذي نعنيه هو السفينة الناقلة لها.
مرة اخرى مع أدونيس عندما يجعل من الكلمة رسالة صوفية، تنشد صيرورة شعرية عندما ترتبط بمجهول، وعلى الشاعر وحده أن يرى العالم كلمة، كلمة البيت الكوني، ليس من كلمة بلا اشواك، لا كلمة ناعمة ، الكلمة وحدها كانت بمواجهة تعريات اللغة، كل الكلمات  نتاج لأثر قديم، كل كلمة مسلحة بما تخنزنه من مؤونة التفسير، الكلمات الفقيرة لا تنمو إلا في بيوت القصاصين الذين يرون الحياة من خلال حدث مفرد، وغالبا ما يكون ذاتيا، في حين أنها ولدت وفي حروفها صوت الجماعة.  يتحدد مفهوم الكلمة بأنها “صوت” لغوي،” يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، كما قال بن جني، أو أن اللغة بيان، كما يقول الجاحظ، أو”الأنباء والأخبار” كما يقول المعتزلة”،  ومن هنا فالطريق لمعرفة العالم، هو أن تكون كلمات السفر إليه مشحونة بما هو غير مألوف، إنها خرج مليء بما يمكن حاملها من أن يتكلم بألسنتهم، وتجعل بضاعته متداولة حتى لو لم يقرأوا لغته.
عندما يعود السندباد من سفراته، لايعود بالبضاعة كما يتصور قارئ الليالي، بل يعود بكلمات عن حكاية جديدة، يعود وقد حملت كلماته – البيوت-  ما يمكنه أن يواصل حياته، كائنات جديدة ستتولى السرد على أناس تعودوا أن يعيشوا في بيوت الكلمات، أعني الفلاسفة والفنانين والشعراء والمفسرين والأئمة.