عبدالجبار خزعل.. المماثلة البصرية لاسطورة الواقع

ثقافة 2019/07/29
...

د.جواد الزيدي
يقف الفن في مقدمة الاتجاهات والحقول التي تعمل على تحصين الذات من تشابكات الأوهام والنزعات الخارجية المليئة بالشرور والدفاع عن اليقين الذي يغرق الذات بطرائق تختلف عن دفاعات الآخرين . ولذا فإن الفنان عبدالجبار خزعل يدافع عن ذاته بطريقته المغايرة وبتحصينات تستوجب مستلزمات معرفية وموقف تأملي إزاء الحياة وترجمة ذلك على صعيد السطح التصويري ينطلق من تكريس رؤيته الجمالية التي تنسجم مع نزعاته الداخلية وتتصالح معها من دون أدنى ازدواجية على صعيد الفن أو السلوك الانساني اليومي، فاخلاصه للرسم وتمترسه خلف خطابه الجمالي يعد عتبة أولى وبداية تلك التحصينات الواقية من أضرار وازدحام المفاهيم والأفكار.
فهو يتقصد الرسم لذاته من دون أدنى لحظة تفكير بمنطق براجماتي له اذا استثينا من ذلك المتعة الشخصية أو الغرض الجمالي الخالص على الرغم من انفتاحه على مغامرة الواقع ومقامراته وتوظيف بعض مفرداته التي يختزل فيها عددا من الوقائع في اللوحة الواحدة ، فينتج ما يمكن ان ندعوه بتضايف الواقعة المنتمية كل منها الى بنية زمكانية معينة ، وهذا التضايف يؤدي الى التكثيف والاختزال على صعيد البنية السردية للحوادث المجتمعة في خطابه البصري الذي يشي بأكثر من واقعة تستجيب لمقومات تاريخية، بدءا من تعدد الأشكال والموجودات الى تعدد المعالجات التقنية بحسب ما تفرضة لحظة التعبير الأكثر جدية بجوهر الواقعة أو انفعالات الفنان جراء ذلك التمظهر وصولا الى تعدد الألوان التي تفضي الى مناخات وطقوس مختلفة أيضا يمكن أن تؤسس دلالة مرتبطة بدلالة الحدث والمكان، وهذا الانشطار هو ما يمكن أن يؤسس أو ينتج بيئة شاملة للخطاب المرئي في ضوء الأنساق البانية وأن اختلفت في طبيعة تشييد ذلك النظام، ألا أنها تحافظ في الوقت نفسه على شمولية البنية التي تجتمع فيها الدلالة والمعنى والمرجع البيئي والنفسي والاجتماعي وتفسيراته المتعددة طبقا لفاعلية العلامة بمستوياتها المتحولة من الرمزي الى الايقوني وما يتصل 
بهما.
  ولذا فإن خطابه البصري في مجمله يكاد أن يكون معبرا عن أمكنة ما زالت عالقة في ذهنه على الرغم من ازدحام المفردات ، إلا أنها في النهاية تنتمي للمناخ ذاته وقد اقتصرت علاماته على مشاهد النساء القرويات بالعباءات السود، المسورات بالحلم وهن يعبرن طرقات المدينة أو الى السفر البعيد والهجرة وهن يحملن السلال الملونة والمحملة بالموجودات عند الذهاب والاياب مع بعض الاشارات التي تؤكد حضورها في هذه الرحلات كالطائرات الورقية التي يلهو بها الأطفال أو الفتيات الصغيرات كجزء من مكافأة الرحلة وهذه المرافقة وامتيازاتها الجميلة التي تبقى عالقة في الذهن طويلا ، فتظهر امتدادات شواطئ النهر والأشجار الممتدة بعتمة خضرتها على جانبي النهر، وصياح الديكة خلف النساء  بما يعكس الطبيعة القروية لهذه الرحلات المبكرة ، إذ أنها خصيصة من خصوصيات المكان . الرحلات التي تتجاوز الوظيفة المحددة وتتعدى ذلك الى ما يمكن أن يسجل حضوره الروحي ، فالموجودات هي جزء من عادات وطقوس شعبية أيضا ترتبط بالوجدان الجمعي القائم على تقديم النذور للمشهد المقدس الذي يخاطب المكبوت الداخلي والكوامن في تحقيق ما هو غائب وبعيد ومجهول ايضا. 
فلذلك كانت لوحة خزعل لا تخلو من الأخضر المقترن بالقدسية في الذاكرة الشعبية ويلتقي مع مرموزات النسق الجمالي في الحركة والاتجاه أو طبيعة الموضوع المشيد ، ومن ثم تحولات الشكل كجزء من تكوينات الحياة ومعادلتها. 
فالمرأة التي تقدم النذور الى المشهد المقدس أو اشارة الى الرمزية العلوية تظهر بمسار آخر وهي في وضع الحمل ومن ثم في حالة الولادة وهي تداعب طفلها الصغير، فالولادات دائما تأتي من هذا الحراك الذي يتجلى في استمرارية الحدث وممارسته الطقسية التي لا تنفصل عن حبلها السري المقترن باليقين الشعبي ، فعلى الرغم من مأساوية الواقع الا أنه تقصد رسم 
المسرات.
 إن لوحة العتاب عبارة عن أحلام ملونة سواء مثلت اسطورته الخاصة أو حاولت ترجمة اسطورة الواقع بوصفه حاملا لكثير من المجاهيل والمتناقضات أو حاول الاقتراب من الموروث الشعبي في التراث العربي وكأن بعض لوحاته جزءا من الحكايا البغدادية من خلال تأملات النساء على شواطئ البحيرات أو تلك الخارجة من أسراب النخيل وهي تتأمل القمر والسماء ومناظر الطيور المهاجرة وترسم وحشتها ونشوتها أيضا بالامساك بأحلامها المفقودة التي ستأتي ذات يوم وهي محاطة بقباب ومنائر ملونة وأهلة ومسارات للحياة القادمة ممثلة بالايوانات التي ستمر السعادة منها . حاول العتاب استجلاب كل الموروثات الشعبية واستنطاقها في خطابه البصري العائم على مسطح الحياة وممثلا  لمشهد مجتزئ من الواقع ، ولكنه كلي في التعبير عن الواقع نفسه بأسراره وخفاياه والمخبأ داخل النفس البشرية ، فصنع مماثلة بصرية مع ذلك اليقين الذي يعد مسارا للحياة بنسقها الكلي اليقيني. 
وعلى الرغم من تعبيريته العالية في الصورة الايقونية أو الموجودات ، إلا أنه استطاع تمثيل الواقع الخارجي ومحاكاته والاقتراب منه بطرائق صدق التعبير التي
امتلكها.