في محضر أبي القاسم

الصفحة الاخيرة 2018/11/09
...

جواد علي كسّار/
لفت الجميع موقف النبي صلى الله عليه وآله في توزيع غنائم يوم غزوة حنين، فبعد أنْ تحوّل ميزان القوى لصالح المسلمين وتمّ لهم النصر، اجتمع رسول الله صلى الله عليه وآله في منطقة «الجعرانة» لتوزيع الغنائم، التي أفاض بها على أهل مكة ولا سيّما «مسلمة الفتح» وبعض المهاجرين، حيث يذكر أوّل كتاب السيرة الموسوعية محمد بن إسحاق (ت: 151ه) وتبعه على ذلك الآخرون، أن النبي أعطى أبا سفيان بن حرب مئة بعير، ومعاوية ابنه مئة بعير، وحكيم بن حزام مئة بعير، وكذلك فعل مع النضير بن الحارث والعلاء بن حارثة والحارث بن هشام وجبير بن مطعم ومالك بن عوف
وغيرهم.
أثار الموقف النبوي هذا حفيظة قوم من الأنصار فغضبوا، وظهر منهم كلام قبيح، حتى قال قائل: «لقي الرجلُ أهله وبني عمّه، ونحنُ أصحاب كلّ كريهة!». يعنون بذلك أن النبي جنح إلى قومه المكيين وحاباهم بالعطايا المالية، على حساب الأنصار!
حين بلغ النبي ما دخل على الأنصار من أمر توزيع الغنائم، أمر أنْ يقعد الأنصار وحدهم في اجتماع مغلق، ولا يقعد معهم غيرهم. ثمّ أتاهم شبه المغضب حتى جلس وسطهم، فقال: "ألم آتكم وأنتم على شفا حفرة من النار، فأنقذكم الله منها بي؟ قالوا: بلى، ولله ورسوله المنّ والطول والفضل علينا. قال: ألم آتكم وأنتم أعداء، فألف الله بين قلوبكم بي؟ أجابوا أجل، ثمّ قال: ألم آتكم وأنتم قليل فكثركم الله بي؟ قالوا: بلى. هكذا استمرّ النبي يذكرهم بمآثره ومواهب وجوده بينهم، ثمّ سكت، ثمّ قال: ألا تجيبوني؟ قالوا: بِمَ نجيبك يا رسول الله، فداك أبونا وأمنا، لك المنّ والفضل والطول. قال: بل لو شئتم قلتم: جئتنا طريداً مُكذّباً فآويناك وصدّقناك، وجئتنا خائفاً فآمنّاك!
عند هذا المنعطف يقول المؤرخون وكتّاب السيرة، إنَّ الأصوات ارتفعت بالبكاء بين يدي المصطفى، وقام إليه شيوخهم فقبّلوا يديه ورجليه وركبتيه، ثمّ قالوا: رضينا عن الله ورسوله، وهذه أموالنا أيضاً بين يديك فاقسمها بين قومك
 إن شئت.
عندها أوضح المصطفى فلسفة موقفه، بقوله: يا معشر الأنصار، أوجدتم (حزنتم) في أنفسكم إذ قسّمتُ مالاً أتألف به قوماً، ووكلتكم إلى إيمانكم؟ أما ترضون أنْ يرجع غيركم بالشاء (الغنم) والنعم (الجمال) ورجعتم أنتم ورسول الله في سهمكم؟
ثمّ ختم صلى الله عليه وآله لقاءه المغلق هذا مع الأنصار، بأنْ ذكّرهم أنهم بطانته وموضع سرّه وأمانته، ومن يعتمد عليهم في أموره، وهو يقول: لو سلك الناسُ وادياً، وسلك الأنصار شعباً لسلكتُ شعب الأنصار!
سلامٌ على أبي القاسم رسول الله في ذكرى رحيله.