أُحادية المجتمع وتعدديته. . من التنابذ إلى المسايرة

ثقافة 2019/08/02
...

د. نادية هناوي
تساءل الفيلسوف هابرماس في معرض توصيفه للنسالة الليبرالية: هل نحن كائنات معيارية أو لنذهب إلى أبعد من ذلك، هل نحن كائنات ينتظر الواحد فينا من الآخر مسؤولية تضامنية واحتراما متساويا؟ فأجاب: (يبدو أن السؤال الفلسفي الأصيل عن الحياة التي يجب أن تعاش هو سؤال يتجدد على مستوى من العمومية الانثروبولوجية) ورأى أن التبعية هي الاندماج وأن في تعددية أشكال الحياة الثقافية تتحدد هوياتنا لنفهم أنفسنا بوصفنا كائنات نوعية، وبالشكل الذي يجعل التبعية بالنسبة للآخر هي ما يشرح قابلية اندماج الواحد في الآخر. 
وتتخذ التبعية عند هربرت ماركوز معنى آخر يتجاوز معنى خضوع الذات للآخر إلى معنى الخضوع للمنطق، وأقرَّ أن المجتمع الأحادي أخذ يتلاشى ويزول لتزول معه أشكال الرقابة ومنها النزعة الكلية الاستبدادية والنظام النوعي للإنتاج والتوزيع الذي يتوافق مع تعدد الأحزاب والصحف. وهذا ما يتيح للأحادية الفردية أن تشمخ بوصفها اتحادية يتعدد داخلها الفرد الواحد ليغدو صورة لمجتمع كُلاني.
وإذا كانت نظرية المجتمع الأحادي قد سقطت؛ فإن العناصر المعارضة المتغربة التي كانت الثقافة الرفيعة تشكل بعدا آخر للواقع هي أيضا في طريقها إلى الزوال، ولكن هربرت ماركوز حذّر مما سماه كارثة التحرر التي تحدث( حين لا يستطيع المجتمع أن يزعم أنه يحترم الفرد وأنه في الوقت نفسه مجتمع حر وهو عاجز عن حماية الفرد الخاص حتى داخل جدرانه الأربعة ) وهذا المحذور هو الذي عاشه العراق بعد سقوط الدكتاتورية فكابد ويلاته وقاسى شروره .
وباللاحادية المجتمعية يتحقق التنظيم الاجتماعي باتجاه اشاعة قيم التسامح والاعتراف والتحرر والمساواة، ولا سبيل لبلوغ ذلك سوى نبذ كل أشكال الاحادية والاتباعية. تلك الأشكال التي وجدها المفكر علي حرب توصل إلى الصنمية والوصاية، مؤكدا أن لا سبيل إلى بناء مجتمع تعددي؛ إلا إذا تخلى المثقف عن أطيافه النخبوية وغادر فكرة أنه صاحب الدور النبوي التي رآها ما تزال تستحوذ على تفكير المثقف الراهن ونضالاته، واجدا أن التوصيفات بالنخبوية والنمذجة والمعيارية هي صور تمثيلية لهذه العقلية الوصائية والطوباوية التي عفت عنها إمكانات التحرر والاستقلال والجدارة، عادا سمات التمركز والوصاية والتسيد هي سبب الفواجع الإنسانية. 
وهذا ما رآه أيضا المفكر عبد الرزاق عيد الذي نبذ مفاهيم النخبة والمعيار والنموذج، ودعا إلى التعدد المجتمعي محذرا من التمركز. ولعل مشروعية هذه الطروحات أنها تنطلق من فرضية أن التضامن بين البشر يلتئم بما هو ذو طابع رمزي أو عيني أكثر مما يلتئم بالغايات العقلانية والحسابات الاقتصادية. 
والسبيل الى نبذ التمركز هو الاقرار باالتعددية، التي بها يمكن الدفاع عن جبهة المجتمع، دفاعا به تزال الحدود والفوارق وبرسملة رمزية، تعطي أكلها على مستوى العمق منه، كما أن بالتعددية المجتمعية يتمكن الوعي من تحديث آلياته باتجاه القبول بالاختلاف، وهذا هو الذي يتيح النجاة من التخلف، مانحا الذوات تحصنا من الوقوع في النكوص والرجعية والأصولية والنخبوية.
التعددية تعني أن يقبل المرء الآخر بالتساوي وبلا انتقاص أو دونية. وأن لا سبيل لرأب صدع الاختلافات والتغايرات في الآراء والمواقف بين الافراد؛ إلا بالقبول والتحاور والتوافق فلا نقبل بالنمذجة حين تكون تحجرا ولا نؤيد المعيارية حين تلغي طرفا على حساب طرف، كما نعارض النخبوية إذا كانت مغلبة للواحد على المجموع، وهذا المسلك هو الذي يحقق تعايشية ثقافية وتوافقية مجتمعية، باتجاه بناء قواعد صحيحة للحياة تؤسس للسلام والاحترام.
وليست التعددية كرؤية مجتمعية ثقافة متعالمة تتعالى بطوباوية وهي ليست ثقافة هوائية استهلاكية ومؤقتة لا طائل من وراء تحقيقها ولا سبيل لدوامها، بل هي التعايش الذي فيه التوافق الذي ليس فيه انشقاق، والاجتماع الذي يتطلع اصحابه الى التوازن بلا تحريف ولا ارتداد. 
وبالتعدد نتمكن من إعادة إنتاج ثقافاتنا بعيدا عن التحجر والانغلاق. وواحدة من الاستراتيجيات التي يمكنها أن تجلب هذا الطرح إلى منطقة التمكين الواقعي هي فاعلية التحرر الذاتي من الفردانية والنرجسية، وبما يجعل الفرد برما بمختلف أشكال الزعامات وثائرا على مظاهر النمذجة وأنماط الاقيسة والمعايير..
 وليس غريبا إذا قلنا إن أهم معايب مجتمعنا اليوم أنه منغلق بمعيارية احادية، تحتضن الفرد حين يكون ذاتا تابعة لمركز يتمحور حوله كنموذج واحد، وتنبذه بوازع نفسي نرجسي حين يكون ذاتا تتمركز على نفسها وغيرها. 
وما تسعى إليه المجتمعات التعددية هو دحض هذه التابعية في الانسياق والمعيارية طواعا وتسليما، محاولة قلب مركزية التنابذ إلى مسايرة تفاعلية تندمج مع التغير وترفض الركود . 
وعلى وفق هذه الرؤية الإدماجية والانفتاحية، يصبح للمجتمع الأواب للتعدد منظور ائتلافي يرى العالم من زاويتين في آن واحد، الأولى هي زاوية الإيثار والغيرنة والثانية هي زاوية الأنا والذوتنة. 
وباستبعاد المجتمع للتمركزات والاتجاه صوب اللاتمركزات ستجتمع فيه المتضادات وتتلاقى عنده الثنائيات بلا أي تصادم أو اضطراب ومن دون أدنى احتمال بالتشويش والفوضوية أو الانحياز.
 والسبب أن المجتمع سيصبح مجموعة مجتمعات بلا قطيعة ولا حدية. ولن يكون للعائمية أو الاستلابية من سبيل إليه، كونه سيغادر منطقة الرؤية الجزئية للأشياء إلى منطقة الرؤية الكلية، مستعيضا عن منظاره الأحادي البعد، بمنظار ثلاثي الأبعاد يرى الأشياء من مختلف الزوايا والأركان.
وهذا التصور سيدفع بالمجتمع إلى المداومة بمثابرة والاستمرار بدأب، ولعله يصل إلى ما سماه تودوروف بالثقافة الحية التي تكون في تحول دائم وبما يجعل كل فرد يحمل في داخله ثقافات متعددة. ووفقا لهذا الطرح الانفتاحي يصبح المثقف في مثل هذا المجتمع ناقدا ذاته قبل نقد واقعه، وهو ما طالب به هابرماس المثقف، داعيا إياه إلى أن يقبل النقد والتعرية ولا يتمسك ببنى ثقافية فوقية. وما مهمة المثقف سوى تحرير مجتمعه من خلال إعادة النظر في قيمه ومفاهيمه للحرية والحقيقة والمصلحة العامة..
وبهذا الوازع النقدي تتطور أرضية المجتمع الانساني، فتكون إرادة المجمتع فوق أية إرادة، وتسود فاعلية التنافس بلا هيمنة ولا تفرقة، كما سيشيع الاختلاف بلا تنابذ أو
تسلطية.