الأنثى تستعيد وظيفتها السرديَّة

ثقافة 2019/08/05
...

ناجح المعموري 
المثير في رواية « الشهداء الخونة « للقاص حسن كريم عاتي الكشوف السياسية التي عشناها والتي اقتدر الشعر والشعرية على لملمة تفاصيل سردية الطاقة الكبرى في الحياة ، وهمها المذكر والمؤنث ، حسن ، و « م «  ودخول يوسف لاحقاً بعد تراجيديا غياب حسن عند الحدود .
استطاع القاص فك الاشتباك على الوحدات السردية والاعلان عن الذي كان متكتماً عليه وتحقق هذا البوح على لسان « م «  واجد في هذه المبادرة انتباهه مهمة وذكية ، تفيض على تجوهر الموقف الثقافي والسياسي للقاص حسن عاتي ، لأنه اختار « م « لساناً كاشفاً عن المستورات في حياة كل منهما وتتجاور هذه الالتفاتة التي زودت الانثى بنوع من القوة والانتباه لمرويات التاريخ التي عاشتها مع حسن وهما في المدرسة ، والانتقال الى درس التعلم الاكثر اهمية في الحياة ، درس يمثل موروثاً لكل منهما استلمه من والده ، درس الموقف الاجتماعي والثقافي والسياسي . كل منهما خسر والده وسط اشتباك الاجتما ــ سياسي . 
وادركا بأن الاب هو العارف الذي بوقت مبكر كيفية مواجهة الاسئلة وتمكنا معاً من ذلك لذا كان ضحية النظام السابق على الرغم من تباين تواريخ الغدر بهما كل واحد منهما تعلم من درس والده ، ورث منه مجداً استوطن الحكايات والذاكرة ، ولم يعد بالإمكان الفكاك منه ، لان الموروث الذي حصلا عليه ليس سهلاً ان يكون لاخر لا يستحقه . حازت « م « صوت الانثى المبكرة في التاريخ السردي / الشفوي واختارت القص والاعلان ، والاعتراف المانح لكل من ابويهما عظمة وقوة وديمومة الحضور . « م « لم تستعر صوت شهرزاد ولإنقاذ حياتها ، بل تعاملت معه ايضا ذاكرة لها وللنسوة ، وهو ــ ايضا ــ ذاكرة ضحت من اجلها شهرزاد كثيراً ، وافضت به لمن تأتي بعدها ، صوت هو سلاح معبر عمّا يعنيه الكشف والاعلان عن الاسرار بعد الحفاظ عليها وسط خزان الذاكرة / التاريخ الفردي والجمعي ، ولحظة الاعلان ، زمن التحدي والتعبير عن وجود طاقة هي نتيجة لمرويات الماضي لكل من الابويين ويجب ــ هكذا تصورت « م « ليس الاعلان عنه والكشف عن عظمته وليس البوح به فقط ، صوت « م « الشهرزادي تبدى من التحدي والحضور القوي . 
وجدت القراءة سمة جوهرية في السرد المعتنى به بشكل جيد واعني به فيضان الشعرية واللغة الشفافة التي حازت عليها الرواية ، لكن الاعتراف عن تاريخ مشترك بين « م « و « حسن « يمثل كشفاً عن مجد عظيم ، تعاونت القدرات الذاتية لكل منهما ، وصاغاها وسط ظروف العنف والظلم والخوف والقلق ، لكن الابوين عبرا عن حضور لعقل كل منهما كي يؤدي دوره . وانا اعتقد بأن القاص « حسن كريم « اختار لغة شفافة كثيراً وشعرية ، من اجل ان تتميز بها « م « وهي تحكي وليس بالضرورة ان يكون لسانها شبيهاً لمرويات « شهرزاد « بل ان يختلف ، لان الموضوعي والذاتي استدعيا مثل نمط السرد الذي افصحت عنه مقولات « م « التي ازاحت الستار عن كل ما تكتم عليه القاص وحافظ على شيء من التلاعب لنشر الحجاب على السرد الفني والفصل الخاص باعترافات « م « وهو طشت الظعون : 
« انا « م ....» التي تحدثت عن افواه كثر ، بين مدح وقدح . اشهر افادتي بعد ان انحسر الخوف ، حد انه لا يهدد بالموت في لحظة البوح بالمخاوف : اعلنها جهاراً في ليل ونهار . 
ستعترف ( م ....) وتقول افادتها ، لأنه تجاوزت لحظة الخوف والقلق ، بحيث لم يعد مهدداً للآخر بالدمار والموت ، انها ستعلن كل ما تريد قوله جهاراً في ليل ونهار ، لأنها بعد الذي حصل لسردية حسن الباحث عن الخلاص ما يمنعها ويقمعها عن الكلام « لم يكن من فتق تميط  الايام لثامه الا ويكون رتقة بقطعة من الفؤاد . فلا الالم يكفي لتدجين الروح على ادمانه ، ولا المخاوف تفارق الهواجس ، فتستباح مساحة الفرح بكثرة مساحات الرتق لفؤاد فقد تسميته . فقدان ابي كان اقل الماً من فقد « حسن « وليست من مفاضلة بينهما ، وان جمعتهما وشائح الانتماء فالقابل كان نفسه وان كان مقتلهما في زمنين مختلفين بفاصلة قصيرة . وفقد « حسن كان اكثر ايلاماً من فقد « يوسف « الذي اخذته الغربة بعد زواجي منه ، وانجابي ابنتي الوحيدة ، التي عاشت مثلي ، يتماً مؤجلاً / الرواية ص 42//
التركيز واضح ، مكتف بكشوف ، معتّم عليها ــ كما قلت ــ ولم بعد ممكناً التستر عليها ، لأن الظروف المستجدة وفرت ممكنات القول والذهاب نحو المسكوت عنه تخوفاً ورعباً . وهذا القول اضاء دور الانثى / العاشقة في الحياة ، بعدما حانت لها الفرصة التاريخية والتي صاغتها عناصر ثقافية متنوعة لكنها متجاورة باتجاهات متماثلة فكرياً ، دور الاب الشهيد وفضاء العائلة ، وعلاقتها بـ « حسن « العاشق الاول و « يوسف « الذي صار صندوقاً لــ « حسن « عندما هرب ، وارتضى ان يتحول متماثلاً له ، ولأنهما متشابهان ، وجدت « م ...» به نوعاً من التعويض وسيتمكن من ردم الفجوة القاسية التي عاشتها عمراً طويلاً . « الاول فقد قبل ان تكتمل عواطفي بوعي له ، ولم يكن اليتم الا حاجة يومية عشتها وادمنتها بين جمع من الاعمام وام لا تبطل النواح عليه من حب له او حاجة به ، او رغبة فيه ولم يترك لي من اخ او اخت / ص43// 
ادرك القاص حسن كريم عاتي بأن الذكورة هي التي ترصن دورها الحياتي وتكرس فضاءها الثقافي الرصين والمثير لانتباه الاخرين حتى تتحول مزاولاته الى ما يشبه الطقوس المعلنة ، ويعتاد عليها الاخر ، وهذه اهم المواقف واليات تبلوره بالنسبة للذكورة ، ضمن خطاب الجندر ، الذي يعزل بين الذكورة والانوثة التي تتكون بوقت مبكر ، على اسس سرانية ومتكتمة وليست علنية ، لان الانوثة هي هكذا دائماً ، تنمو وسط مساحة من الاسرار . وهكذا بالنسبة للجندر يتشكل له فضاء اجتما ــ ثقافي ووسائل تميزه في التعامل والحوار بين طرفيه ، الذكورة / الانثى ، لذا وجدت في الرواية نوعاً من الانضباط القوي لدى الانثى « م ... « وركزت الدراسات الثقافية على ان الجسد ضمن هذا المسار خاضع مثلما هو جسد الانوثة لما توقعه المدونات عليه .
مسترشدة بما توفره انظمتها الثقافية ، لذا تتمظهر حضورات الانوثة والذكورة من خلال العناصر الخاصة بكل منهما الاجتماعية والثقافية والفنية . فالذكورة لها وسائل عديدة ، الازياء ، الاناقة ، العطور ، الصور / كيفية الحوار / وللانوثة كشوف خاصة تقولها بآلية مغايرة عن طريق الذكورة ودائماً هي الاكثر حضوراً ومعرفة بآليات الافصاح ، هي اكثر ذكاء لاختيار ما تعتقده فاعلاً ومؤثراً على الاخر ، وعلى سبيل المثال ، اعدادها الطعام بنوعية وتباين تزاول به الهيمنة على الذكورة . واستطيع التركيز وتوظيف ما ذهبت اليه دراسات الجندر الى ان الجسد هو الفضاء الواسع الذي يكتب عليه الاخر ، ووجدت في اعترافات « م ..» بانها ذات سقف عال ، لانها كانت وظلت محرومة من مدونات الاخر ، لأنه غادر وقتلته الافعى . خسرت « م ..» ما هو مهم في حياتها ، الذكر ، لانها لا تختلف عن المحيط الانوي العام الذي وجد الذكورة هي المفضلة على الانوثة ومنحت الذكورة معظم الامتيازات وحرمت الانثى منها وحكمت على الاهل بقواعد السلوكيات تحبذ الصبي / احمد زين الدين / الحداثة ويقظة المقدس / دار بيسان / بيروت / 2015/ ص 193//
تستمر ( م ....) تداعياتها الكاشفة ، المعرفة لذاتها / اناها وكيف رأته وفهمته ولذا صرحت بكل شيء ، وكانت لينة ، مرنة ، رصينة بثقافتها ، لان دورها الحياتي الموروث بحاجة لمثل ذاك الموقف ومضت تقول ( « حسن « اكتمال العواطف بعنفوانها ، واكتمال الوعي بجمالها ، نسجتها يده بتأن ودراية غرزة غرزة . لم يجزع دلال ، ولم يهب المجهول الذي تخبؤه الايام . لحبنا ، ولم يجد فارقاً بين ما تصبو اليه ، وما يتمناه للناس ، فأضاعني وضيع نفسه ، في حرب خاسرة منذ البدء ، لم يدرك هذا حتى بعد مقتله بلدغة افعى تركته  مسجي في الحدود الفاصلة بين وطنه ووطن الغربة / ص 43//
قدم القاص حسن كريم عاتي ( م ...) انموذجاً للانثى التي هي في ذاكرته بكل الصفات والخصائص التي تمناها الأنثى التي يريد الحياة معها وفعلاً ظهرت « م ...» هكذا اكثر قوة وشجاعة ، واوضح صورة ونصاً عائم وتمظهرت هي وصورتها بالمرآة واحدة . وتأثرها على المتلقي مهم وعميق وتبدّت صورتها السياسية ذات بلاغة لا تقوى على العيش بعيداً عنها لان مثل هذه الصورة تعني الحياة كلها ، العائلة ، الاب ، الام ، والعاشق « ابي قلعة احتمي بها على الرغم من اندراس اطلالها ، وكل ما تركه يخضع لتشوية النظام ص 49//
ما يثير المتلقي البوح بالحب والهيام بحسن . ويشعر بالحزن لان العاشق الملدوغ لو سمع مفردة من الذي اعترفت به « م ...» لعاش حياة مبتكرة بشكل غير مألوف ، ومعروف ويسجل لهما هذا الابتكار ( اعرف لابد للقلب ان يتغلب على حزنه بفرح كبير ، ولن يكون ذلك الفرح الا بعشق كبير ، ولا اظن احداً له القدرة على انعاش القلب مثل حسن . وحسن قتله الوطن ، اشعر احيانا بيده تلوح لي على البعد . اعرف ان كانت تشجعني على زراعة سنبلة حب في الفؤاد الى جوار بستانه ؟ ص49//
فشل حسن عبور الحدود ، لدغته الافعى وحرمته من خلوده مثل جلجامش ، وهي التي حازت على البقاء والتجدد ، وارتضت « م ..» بالحب الجديد الذي استولده غياب العاشق الاول ووجدت بــ « يوسف « مماثلاً للاول ، لكنها تعرفت على ما هو خزي . وهنا واجهت سواد العلاقة على الرغم من انها حازت على طفلة منه ( مع ما سكنني من شعور بالخيبة لخيانة يوسف ، حين عرفت متأخراً اعترافه في براءته التي قدمها على جميع رفاقه الذين كانوا قد هاجروا او قتلوا ، وحين هجر الوطن وهرب الى الغربة في بلاد الثلج التي كان ينعتها بالعدو وبطلاق نفسي من كلينا ، اقول هل انا وهو مؤهلان للنعيم بهذا المجد . فما زلت ارسم صورة الرجل الذي احب بنول الذكريات ، لحمته ابي وسداه حسن / ص 50//
هذا ما تعرفت عليه لاحقاً وقبل الاقتران بيوسف الذي وجدت به انموذجا رفيعاً لانه يؤمن بالافكار التي عرفها الاب ولاحقاً حسن ، اي لكل منهما عقلاً مقتدراً عارفاً بظلام السلطة وسوداوية ثقافتها ولانها ــ السلطة ــ تمتلك كل آليات اخضاع المختلف معها ، تذهب اليه ، لتبقى طويلاً وفي اللحظة التي اعترف بها بخيانته ، شعرت بأن قلبها انجذب بقوة شديدة الى ذاكرة ما زالت حيَة ، يقظة ، وحتماً احست بنوع من الانكسار والخذلان ، لان مثيل « حسنها « تمظهر خائناً وعميلاً . وحتماً كان تكوصها قوياً ، ومدمراً ، لان سرديات الاب تلوثت . ولكن شذرات طفرت من خزان ذاكرتها ومارست فعلاً مساعداً على تطمينها . لذا استعانت مرات خلال السرد بكمونيات مخزونة . 
قصة الحب بين ( م ...) وحسن وبروز عناصر التشارك مع والدها الذي قتله النظام هي التي عبدت الطريق اليها وقرر المغادرة للمنفي لانه غير قادر على العيش بالوطن الذي تحول فضاء للمطاردة والقتل والتغيب . لكنه مات بلدغة افعى ليلاً وهو نائم . خسرت حلمها المنتظر وعشيقها الذي حوت عليه سنوات طويلة ، راضية ما يقال عنها بسبب ارتداء السواد .
اجد ضرورة الاشارة للتناص الموجود بين « حسن « ونهايته بلدغته الافعى . انها تراجيديا مماثلة لمأساة البطل جلجامش الذي سافر بمغامرة انتهت بحصوله على عشبة الخلود وعاد بها الى اوروك وضع عشبته عند حافة البئر ونزل ليستحم وعندما صعد لم يجد العشبة لان الحية سرقتها ، خسر الملك خلوده وحازت عليه الافعى . التناص في طبقة النص العميق تماثل ، لان الخلود يوفره المنفى ، انه خلود بسيط ، معنوي والخلود ليس ابديا ، بل تمثله حياة سعيدة خالية من الملاحقة والاضطهاد .