القراءة بمفهومها التقليديّ العام درجات تعادل درجات الفهم على نحوٍ رياضيٍّ عادلٍ وحقيقيّ ومضمون، وكلّ درجة من درجات القراءة تقتضي درجة ملائِمة وموازية في الفهم ابتداءً من الطبقة السطحية البسيطة نزولاً نحو الطبقات العميقة طبقةً إثر طبقة، ولا بدّ للقارىء من وعي هذه القضية والاشتغال بموجبها سعياً وراء تحقيق أعلى درجة ممكنة من الفهم في الوصول إلى أعمق طبقة من طبقات النصّ، وهي معادلة لا تقبل اللبس أو التلاعب أو الحيلة فما لم يكن القارئ قادراً على إنجاز درجة القراءة المطلوبة في كلّ طبقة لن يكون بوسعه بلوغها مهما تعدّدت المحاولات وتضاعفت الحِيَل، فالقراءة فعل جوهريّ خالٍ من الادّعاء أو المكابرة أو الغرور أو التحدّي لأجل أن يتحوّل الفعل القرائيّ إلى ممارسة حضارية شعارها الرغبة والحرية والمقصد.
تتنوّع هذه الدرجات المتوازية بين نسق القراءة ونسق الفهم وتتعدّد اعتماداً على طبيعة الدرجة الأعلى والدرجة الأدنى وما بينهما من درجات، ويستحيل العبور من فوق أيّة درجة مهما كانت الأسباب والمبررات والمحاولات لأنّ المعادلة ذات طبيعة رياضيّة مُحكَمة لا تقبل الخلل أو التجاوز أو التلاعب، فالدرجة الأدنى وهي تمثّل الفهم السطحيّ المباشر الفوقيّ لا تعكس قيمة قرائيّة يعوّل عليها على صعيد الفهم قبل الانتقال إلى الدرجة التي بعدها، ومن ثمّ التدرّج في طبقات القراءة بحسب مقوّمات النص المقروء وحساسيّة القراءة ومناسبتها ليشبه هذا التدرّجُ الفهميُّ تدرّجَ الألوان في الطبيعة أو في الفنون التشكيلية، على مستوى حرث تضاريس النصّ والتوغل في مجاهيله وألغازه وأسراره وقضاياه لإنجاز الموازنة المطلوبة بين درجة القراءة
ودرجة الفهم.
لا يتحقّق الصعود في سلّم الدرجات القرائيّة نحو درجة موازية للفهم من دون وجود إمكانات تؤهّل القارىء لهذا الارتقاء وتساعده في تحقيق مقاصده القرائية، إذ يحتاج إلى جملة مؤهلات في مقدّمتها: (جهد ذاتيّ، وذخيرة معرفية مساعدة، وعنصر الرغبة والاشتهاء) لأجل توكيد فعاليّة التحسين الفهميّ حين تتطوّر القراءة نحو الأعلى صعوداً، ولا يعني الانتقال إلى درجة أعلى في هذا السلّم إلغاء الدرجة الأدنى بل يعني أنّ الصعود من درجة إلى درجة أعلى وجود جسر تواصليّ فهميّ بين الدرجتين، حيث تتضمّن فيه الدرجةُ الأعلى الدرجةَ التي دونها وتحتويها وتضيفها إلى ممتلكاتها وتوسّع حجم الكيان الفهميّ فيها، داخل سياق قرائيّ تراكميّ يضاعف من خبرة القراءة ويسهم في تحسين جوّ الفهم والتمثّل والإدراك والاستيعاب، نحو فعالية قرائية تبرهن على فروض اضطلعت القراءة أساساً بتحقيقها في
جوهر القراءة.
القراءة ليست عملاً اعتباطياً يكتفي بالرغبة السياحية في تزجية الوقت أو الاطلاع الخاطف على معلومات معيّنة مرتجَلة، بل هي تقوم على سلوك ثقافيّ وفكريّ أصيل له قواعد وأسس وخبرات ومناهج تُحشد كلّها في سياق واحد وعمل تضامنيّ مشترك حتى تكون مُنتِجة وقادرة على اختراق المقروء واحتوائه، بالمعنى الذي يجعل من القراءة واحدة من أعقد الممارسات البشرية لإنسان العصر الحديث بجدارة، وينبغي أيلاؤها العناية الكبرى كي تحقّق مقاصدها وأهدافها على النحو المناسب المطلوب داخل فضاء حرّ لا يقيّد الممارسة القرائية بأية شروط تعيق
حراكها.
يتضمّن الفهم حالة إشباع مريحة تبعث على البهجة والفرح والسعادة عن طريق إضافة ما يحتويه النصّ من كنوز للذخيرة المعرفيّة التي يمتلكها القارئ، فالقراءة التي لا تجلب المتعة لصاحبها وتُشعٍره بأنّ ما يفعله استثنائيّ قد لا يتاح للكثيرين لا يمكن أن تحقّق مقاصدها الكبرى في إنتاج المعرفة وتوسيع طاقة الفهم للقارىء، إذ تسهم المتعة التي يجلبها المقروء لفضاء القراءة عاملاً أكيداً في تحسين الفهم وتزويده بجماليات ورؤيات مضافة، ويستحيل أن يحصل الفهم المطلوب من دون الالتحام النوعيّ بين القارئ والمقروء إلى درجة التماهي والمحبة المطلقة، على النحو الذي تكون القراءة فيه بهجة نادرة لا يعرفها إلا من تطبّع عليها وصار جزءاً من فضائها وحلّى بأخلاقياتها وتقاليدها الجميلة الساحرة.
ولا بدّ من الأخذ بنظر العناية والاهتمام درجات الفهم المقابِلة لدرجات القراءة في مواجهة رياضية لقياس ما تفعله القراءة من قوّة حضور في الميدان النصيّ، فثّمة الفهم البسيط الذي لا يحتاج إلى قدرات قرائية كبيرة لدى القارىء مكتفياً بمسحٍ قرائيّ عام وسريع، وثمّة الفهم الجزئيّ وهو يتموضع في منطقة محدّدة من مناطق النص ويحفر فيها تاركاً بقية المناطق كسلاً أو إهمالاً أو نقصاً في الأدوات، وثمّة الفهم الكليّ الذي يسعى إلى استقصاء أرض النصّ بأكملها ولا يستثني منها جزءاً أو طبقة أو زاوية من غير أن يحرثها ويكشف عن قدرات خصبها، وثّمة الفهم الأفقيّ وهو يمسح وجه النصّ فرحاً بما يترشّح على سطحه من نضوحات دلالية، وثمّة الفهم العموديّ الذي يهبط إلى طبقات النصّ طبقةً بعد طبقة بحساسيّة اختراق قصديّة عارفة لكي يستجلي بواطنها وكيفيّاتها وجمالياتها الخفيّة، وبهذا فإنّ درجات الفهم متنوّعة انطلاقاً من طبيعة قدرات القارىء وفلسفته القرائية ومقاصده التي تشتغل على منهجية محددة في كلّ درجة منها.
القراءة قصّ أثر المعنى في أرض النصّ والاستدلال على هذا الأثر بنوع من الفراسة الميدانيّة القادرة على قراءة تضاريس الأرض، وتحديد الأثر والمسار الذي سار فيه وترك إشاراتٍ بعضها واضح نسبياً، وبعضها غير واضح يحتاج إلى شبكة قرائن لدعم تفسير أو تحليل أو تأويل معيّن، وهو ما يُوجِبُ على من يتصدّى لفعل القراءة أن يمتلك الأدوات اللازمة للقصّ والبحث بصبرٍ وأناةٍ وحماسٍ لا يتوقّف، على النحو الذي يساعده في تحقيق إنجازٍ قرائيّ يبلغ أعلى درجات الفهم كي يكون في مقدوره الاطمئنان على فعالية قراءته بالتأثير المطلوب في الكشف والاكتشاف، بعد أن ينجح القارىء والقراءة في تحسين مستوى الفهم حين تسير نشاطات القراءة في مساراتها الصحيحة والمناسبة في أرض النصّ بتضاريسها وطبقاتها وطيّاتها
ومنعطفاتها كافة.