محمد غازي الاخرس
ويقول العراقي في أمثاله: الثالثة غاثة، أي أنها مؤلمة، وأصل مفردة “غاثة” من الغث أي الفاسد والهزيل ويناقض السمين. يقولون: هذا أمر يحوي الغثّ والسمين، أي السيئ والحسن. ومن الغثّ اشتقوا في العامية مفردة “المغثّة” أي الإزعاج، والغثيث هو المزعج الثقيل الظل، وفلان غثني أي أزعجني. أما في المثل المذكور أعلاه فالمعنى أن الناس تتشائم عموما من المرة الثالثة إن تتابع أمران بوقت متقارب. تراهم يتخوفون أشد المخافة من المرّة الثالثة لأنها تكون سيئة الوقع. ويجري هذا التطير في كل شيء؛ إن حدثت في منزل واقعتان خفيفتان في وقت متقارب انتظروا الثالثة وتوقعوا أن تكون شديدة السوء لأن”الثالثة غاثة” كما قر في متخيلهم. فإن جرت سار الحال بعدها على أحسن ما يرام وغدا الشر مع الثالثة. قريب من هذا يقول المصريون: التالته تابته، ولكن المعنى هنا يوشك أن يكون مطابقا لدلالة التثبت من شيء أو توقع مجيئه المحتم بغض النظر عن شره أو خيره، وإن كنت أفهم من سياقات ورود الكناية عندهم أنها إيجابية وليست سلبية كما هي عندنا. يحدث أمر مرتين اثنتين من دون أن نجاح كأن يخطب الرجل مرة بعد أخرى، فإن يأس قالوا له تقدم فإنّ “التالته تابته”، أي أن الأمر سيحدث، وكذا إذا نوى أحد السفر مرتين وفشل، دائما يكررون: التالته تابته.
لكن، من أين جاءت الكناية يا ترى؟ سؤال تجيب عليه مخيلة العرب، فهم يقولون فرقا من حدث ما: تلك ثالثة الأثافي، أو يصفون أحدا فيقولون: رماه الله بثالثة الأثافي أي رماه بالشر كله. يقول الشاعر مهددا بهذا المعنى: وإن قصيدة شنعاء مني.. إذا حضرت كثالثة الأثافي، بمعنى أنها ستكون القاضية. وقالوا في أمثالهم أيضا لمن يعين عليك عدوك: هو إحدى الأثافي. أما ثالثة الأثافي هذه فهي القطعة من الجبل مثل رأس الإنسان كانوا يجعلون إلى جانبها حجران ويوقدون تحتها، ولهذا قالوا في لغتهم: أثفيت القدر، أي وضعته على موقده الحجري، وهم يسمون الموقد إذا كان من معدن “منصبا” وإن كان من حجر سموه أثفية أو أثافي. وفي كل الأحوال ارتبط الأثافي عندهم بالشر كما في قول علقمة بن عبدة: بل كل قوم وإن عزوا وأن كثروا.. غريفهم بأثافي الشر مرجوم.
الآن بالعودة إلى “الثالثة غاثة” العراقية و”التالته تابته” المصرية، فإن من الواضح أن المصدر واحد وهو فكرة “ثالثة الأثافي” العربية، والسؤال هنا هو: لماذا ارتبط الشر بالحجر الثالث الذي يقوم عليه الموقد؟ ما علاقة هذا بالنار التي ارتبطت في مخيلة العربي بالعذاب والعقوبة الإلهية؟ هل الأمر يعود بنا إلى رواسب حضارية أقدم من العرب؟ أسئلة قد تأتي الفرصة لمناقشتها يوما ما.