جميل الجبوري
في جلسة تأمّل تقصي العادات والتقاليد الشعبية العراقية القديمة وتتدارسها، تذكرت من هذه العادات الكثير الذي ربما عسر تسجيله دفعة واحدة؛ لذلك لا بدّ من الانتقاء والاختيار، ومما اخترته للتسجيل:
نجمة أم ذويل
ما سمعته عنها جد طريف وغريب، فالمعروف أنّ العامة يولون لكسوف الشمس وخسوف القمر أهمية بالغة، وربما نذروا لهما النذور دفعا للشرور وخرجوا من بيوتهم جماعات ينقرون الصواني ويهزجون (يا حوته يامنحوته... هدي كمرنه العالي وأنجان ما تهدينه نضربج بالسجينه هوه علينه غالي).
لكنني لم أكن أعلم أن ظهور نجم مذنب يحظى بعناية أكثر وأهمية أكبر في بعض قرى العراق.
قال صديق يحدثني:
(لشد ما كانت خيبة أملي مريرة في زيارتي الأخيرة لقريتي. لقد قصدتها والفرحة تملأ أهابي والأمل ينعش نفسي في متعتها الحلوة البريئة، لكنني فوجئت بما لم أدخله في حسابي ولا سبق أن مر ببالي..
وجدت القرية واجمة واجلة انتزع الهلع وداعة سكّانها، فالكل في شغل شاغل من أمر بلاء واقع لا محالة.
لقد ظهر في سماء القرية كوكب مذنب، وقد أجمع الشيوخ والثقاة على أنّ ظهوره علامة شر مستطير وخطر جسيم منتظر، وليس هناك وسيلة لاتّقاء أخطاره وشروره إلا بالتقدم له بالنذور، ونذوره طعام يرمى في النهر باسم العائلة المتضرعة مشفوعا بالابتهال الى الله أن يقي الناس الشر ويحفظهم من الخطر.
قضيت يوما في قريتي واجما منتظرا المساء إذ يخرج- حملة النذور – الى النهر الذي يبعد عن القرية مسافة ليست قصيرة ليرموا الطعام الى الأمواج. كان منظرا لم يألفه سكون القرية.
إذ خرجت مظاهرة صاخبة شارك فيها شيب وشبان ونسوة وأطفال وهم يحملون قدور الطعام في طريق النهر وأعينهم معلقة في السماء منتظرة اختفاء خيوط الشمس في الأفق الغربي ليتسنى لهم رؤية المذنب).
ويضيف صديقي قائلا:
(رافقتهم لكي لا أحرم نفسي متعة مشاهدة منظر ما كنت أتخيله قط فكيف بي أشاهده حقيقة واقعة أمامي؟ ولكم حاولت قبل هذا أن أقنعهم بحقيقة الكوكب المذنب لكن جهودي كلها ذهبت أدراج الرياح.
وعندما توارت جحافل الضوء أمام جيوش الظلام التي عمت الكون وظهر المذنب كما ظهرت بقية النجوم نظره القوم بغير العين التي ينظرون بها النجوم الاخرى... نظرة اختلط فيها الخوف بالرجاء.
وسرعان ما صفت القدور قريبا من الشاطئ وتجمع حولها الواجلون... كانوا شيبا وشبانا وصبية وأطفالا وقد ارتسم الذعر – أقسى ما يكون الذعر – على وجوههم وأرعد الخوف أوصالهم وارتفعت أيديهم الى السماء متضرعة وألسنتهم تلهج بالتعاويذ.
وما أن اعطيت إشارة البدء حتى دفعت القدور بمحاذاة الماء وأنهمك الجميع في رمي محتوياتها الى الامواج، وكلٌّ منهم يحرص على أن يكون عطاؤه أوفر لتكن وسيلته في دفع الخطر أكثر إحكاما.
وقفت بجانب جدّتي عندما قربت القدر من حافة الشاطئ وبدأت تغرف منه وترمي بمحتويات مغرفتها الكبيرة في الماء وهي تردد: (باسم أحمد ومحمود.. وفاطمة وزهرة والاب والجدة.. وجميع العباد... اللهم أحفظنا وأحفظهم يا رب)
الى أن أتت على آخر ما في القدر .. أرايت ؟
قلت له معقبا: بل سمعت يا صاحبي رواية عجبا.. ومادة حرية بالتسجيل .. وها أني قد فعلت.
حكاية العاشق البغدادي
للعشّاق البغاددة دور بارز في الاعتبارات القديمة (لدفع الضرر وقراءة الطالع – المحرر) فقراءة الكف واستشارة صاحبة (الخيرة) التي كانت تستشير خرزاتها التي تنثرها على الأرض وكتابة (الدعاء) عند كتابه، كلها من الأمور التي كانوا يتوسّلون بها لمعرفة ما ستحققه لهم الأيام مع من يعشقون.
حدثني أحد المعمرين عن عاشق بغدادي ولهان – في ذلك الزمان – كان يستشير في (بلواه) بقايا آثار قصر العاشق قرب سامراء ويستلهمها النتيجة التي سيحققها مع حبيبة القلب التي عزت عليه وحرمه
أهلها منها.
كان يزرع الشعير في ساحل (كذا) النهر بالقرب من الآثار وينتظر انباته بلهفة، ويسافر من أجل ذلك كل أسبوع من بغداد الى سامراء متطلعا الى (إيناع) شعيره الذي يعني إيناع أمانيه، فلقد كان ذلك عنده دليل تحقيق الامل المنشود ثم كان (يفتح الخيرة) في رحاب القصر ويستقرئ أحجاره بسبل هي أقرب الى العته منه الى العشق، ولقد تحمّل من أجل ذلك الكثير، ولا أدري ولا هو يدري ايضا ما علاقة (قصر العاشق) التاريخي بغرامه المجنون.