ياسين النصير
أن تبني شيئًا، وأن تفكّر ببناء شيء، موقفان مختلفان، أولها ممارسة البناء، والثاني فرض التفكير في البناء، في كلّ شيء ثمّة قوتان، متناقضتان، قوى الحياة وقوى الموت، حتى لو كانت إحداهما مختفية، فلا ذلك يعني عدم وجودها. وتعلّمنا الثقافة شيئًا من مدارك العلم، عندما نؤسّس لحكاية شعبيّة اول ما نفكّر فيه أن بطل الحكاية سينقذ قضية ما من الموت الموشك فيها، وإلّا لما ذهبنا إلى الطبيب عندما نكون بكامل الصّحة، مجرد التفكير بالطبيب يعني ثمّة خلل ما في أجسامنا، حكايتنا، وجودنا، تفكيرنا، ما نودُّ عمله، لاشيء يبدأ من الإيجاب، كلّ الحكايات تنشأ عندما يكون الوضع موشكًا على
الانهيار.
النصّ الأدبي أحد الحقول التي تنشأ فيها الصراعات بين قوى النمو وقوى التدمير، النصّ أرض تفلح بالتجربة، ولا يتمّ فلاحتها إلّا بعد أن تكون قد يبست، أو اضمحلت قدرتها، أي أنّها موشكة على الموت. لتتصارع فيها قوى متعددة، ولا يستغرب أحد، إذا قلنا أن النص تحركه الفواعل وتسكنَّه المفاعيل، هذه ليست بدعة أسلوبيَّة، إنّما هي جزء من صراع مضمر في ماهيّة النصّ وفي اللغة الأدبيّة نفسها، أعني اللغة التي تواجهنا بصراعاتها. اقرأ بامعان تجد ما أشرت إليه واضحًا، أنّك تتبع دور الفواعل التي تتحرّك لترميم أو تبديل ما انتهك أودمّر.
مشكلة البناء تكمن في البحث عن التوازن في النصّ، وفي الحياة أيضًا، ومشكلة الإديولوجيا هو أن تفرض حلولًا ما على هذا
التوازن.
حلولا تفرضها القوى المهيمنة مدعية رغباتها بالإصلاح.يتحدث فكتور ايرلنج، عن أن دور البطل في الملحمة الشفوية هو مشكل للبنية أكثر مما هو مشكل للأديولوجيا، لأنّ البنية تتصل بالتركيب الداخلي للشيء، بينما الأديولوجيا تفرض على الشيء من الخارج. "لأنّ البطل يأتي النصّ وهو مكتمل الأديولوجيا، موقفه محسوم؛ أمّا أن ينتصر أو أن يهزم، لذلك ما يجب ايضاحه في مواقفه هو كيف يبني تصوره؟
كيف يتعامل مع ضده؟ كيف يؤكد فكرته؟، كلّ هذه الكيفيّات أسئلة مبهمة للقارئ، ما أن تتضح صورها في مسار التفكير، حتى تأخذ طريقها للنصّ. على المؤلفين عندما يختارون شخصية لأعمالهم، أن يقرروا، فيما إذا كان بطلا قبل أن يدخل النصّ، أو أنّه سيصبح بطلا بعد دخوله النصّ، الطريقتان
واضحتان.وأنا أقرأ ما تيسّر لي ضمن حدود الوقت المخصص للقراءة، أن ما يعوز كتابنا، خاصة الروائيين، هو التفكير بعمق عن تكوين الشخصية، فلا يكفي المعرفة الخارجية عنها: اسمها، هويتها، ثقافتها، انتماؤها، لأن تكون بطلة في الرواية، بل عليه أن يؤلّف لها مايجعلها صوتا مميزا في الرواية.
كان ديستوفسكي يُلقي بشخصيات ثانوية في أعماله الروائيّة
، ثمّ يكتشف أنّها جديرة بأن تعالج زوايا أخرى من العمل لم تستطع الشخصيات الرئيسة تغطيتها، فيوكل إليها مهمة البطولة الثانوية لتصبح جزءا من لحمة كونيّة النصّ، أمّا شخصياته الرئيسة
، التي بنى عليها تصوره فتخلقها الفكرة، ها هو يأخذ خبرًا صغيرًا نشر في احدى الصحف عن حادث قتلت فيه العجوز المرابية، من قبل شخص سكير مقامر، الحدث واقعي
، لكن النصّ كشف عن سايكولوجية إنسان ملتبس بالمرض والرغبات المحبطة، البطولة لا تنشأ كاملة قبل بدء العمل، تنشأ وتنمو كما لو كانت بنية لا تكتمل إلّا
بالعمل.