رواية ضد الرواية

ثقافة 2019/09/28
...

د. بسّام البزّاز 
 
                                             
أقرّ بأنّي فوجئتُ وأنا أترجم “رواية” الكوبي غيّرمو كابريرا إنفانته (1929- 2006) غيرَ مرة. وتأفأفتُ مراراً. وبحثتُ عن “رأس الشليلة” مرّات ومرّات. وانتهيتُ ولم أنتهِ. فكابريرا إنفاته لا يؤمن بالرواية الكاملة. بل لا يؤمن بالعمل الأدبي الكامل. بل لا يمنح كتابَه صفة الرواية. 
“هذا تصنيف الناشرين للكتاب”- يقول. بدأتُ بالترجمة وأنا أعرف أن لا صلة لعنوانها “ثلاثة نمور حزينة” بنمور ولا بفيلة قدر ما له صلة بلعبة لفظية يلعبها الإسبان ومن نطق بلغتهم قصد إيقاعه في الخطأ لأنّ العنوان في الإسبانية هو جزءٌ من عبارة تتقارب فيها مخارج الحروف وتتكرر حتى “يتلخبط” الناطق بها ويسقط في امتحان التلفظ. هو شيء من قبيل “عدنا نبگه وعدكم نبگه. انطونا من نبگ نبگتکم ننطيكم من نبگ نبگتنا نشوف ياهو الأطيب بنگ نبگتکم لو نبگ نبگتنا”! 
هذه هي الرواية باختصار: لعب. “مزحة في 500 صفحة”- يقول.
وما الهدف من اللعب؟
انتهاج خط جديد في الرواية، خط يعتمد الكتابة بالعاميّة لغة لها في فصلين صغيرين من فصولها، واللعب باللغة الإسبانية المألوفة في بقيّة النص. 
وليست الجدّة في استخدام العاميّة. فلطالما قرأنا بعاميّة عربية وإسبانية وإنكليزية. عامية تزخر باللفظ الدارج والعبارات السوقيّة واللسان الشعبي.
بل الجدّة في اللعب باللغة. في قلب الكلمات وتحريف العبارات واستعمال الإشارات استعمالا صحيحا أو مضللا.
وما الهدف؟
التحرر من كلّ قيد. والخروج من كلّ حد. والإطاحة بكلّ قاعدة.
لا قواعد الحوار شغّالة
ولا قواعد الكتابة والتنقيط فاعلة
ولا قواعد السرد عاملة؟
وما الهدف؟
“هذه الرواية كتبت لتخاطب ذكاء القارئ”. لا ليقرؤها هو فيفهمها بل لتمرّ هي من أمام عينيه فتختبر قوّة بصره ومدى فطنته ونباهته وقدرته على “لملمة” أجزائها وشظاياها. نعم شظاياها. لأنّها “رواية متشظية”. ولأنّها “كولاج”، على حد تعبير آخرين.
أعترفُ بأنّ مفاجآت القراءة الأولى والبحث عن “راس الشليلة” والتأفّف راحت تنزاح شيئا فشيئا بعد أن ألفتُ أسلوب المؤلف وفهمتُ استراتيجيته وتكتيكه: هو لا يريد أن يقصّ قصّة متكاملة الأركان تبدأ بولادة وتنتهي بزواج ثمّ وفاة وتقاسم للميراث، بل يريد أن يقفز من هنا ليعود هنالك بإشارة رابطة او باسم مكرر أو بتفسير لحدث تركه هناك معلّقا. وقد لا يعود. يريد أن يستعرض لغته بلغة أخرى. بتراكيب أخرى. لاعبا ومتلاعبا باللغة على لسان أبطاله الذين خرجوا من عباءة أستاذ نجد في اسمه ما يدل على أسلوبه في استعمال اللغة: 
بوستروفيدون. 
وبوستروفيدون لغة يونانيّة قديمة كانت تكتب من اليمين إلى اليسار ثمّ من اليسار إلى اليمين على أن يبدأ كلّ سطر من حيث انتهى سابقه. ولذلك يقدّم لكتابه بعبارة مأخوذة من رواية لويس كارول (أليس في بلاد العجائب): “وَحَاوَلَتْ أنْ تَتَخَيّلَ كَيْفَ يَبْدُوْ لَهِيْبُ الشَّمْعَةِ بَعْدَ أنْ تَنْطَفِئ”. ويضع صفحة كاملة من الرواية مقلوبة الحروف لأنّه وضعها أمام المرآة. ويصف اللغة الروسية بأنّها الإسبانية مقلوبة.  
وما الهدف؟
هو أنّ ما من صورة واحدة للأشياء.  
فالكلمة بحسب موقعها وسياقها والظرف الذي قيلت فيه. وفي ذلك تلخيص لمبدأ “سوسور” في علم اللغة من أنّ رسم الكلمة اعتباطي لأنّ للكائن الأخضر الذي نراه في الحدائق اسم يختلف بين لغة وأخرى. وهذا هو مراد الكاتب: الكلمات معزولة لا معنى لها ولذلك نلعب بها لنكسبها معناها الآخر والآخر والآخر: لا قاعدة ولا حدّ ولا قانون. يورد “بطل” اللعبة مثالا طريفا على ما يقول وعلى ما يحاوله بارئه كابريرا إنفانته:    
“ الأدب الوحيد الممكن في نظري أدب عشوائي.. (مثل الموسيقى؟ سألتُه.) لا، فما من كراسة نوتات بل قاموس كلمات [...] أو بالأحرى قائمة من الكلمات لا تسير وفق أيّ نظام [...]. توزّع على القارئ، مع القاموس، مجموعة من الحروف [...] وزوج من الزهر. بهذه العناصر الثلاثة يستطيع أيّ واحد أن يؤلف كتابه. لن يلزم أكثر من الرمي بالزهرين. إذا خرج (1) و (3) فيجب البحث عن الكلمة الأولى والثالثة أو الكلمة رقم (4) أو حتّى على الرقم (13) – أو على جميعها، وهكذا. ثمّ تقرأ الكلمات بترتيب عشوائي يلغي الحظ أو يزيد من حظوظه. 
ترتيب كلمات القائمة يكون عشوائيا أيضا، ويمكن أن يكون بالعودة إلى الزهرين. قد نحظى هكذا بقصائد حقيقية ويكون شاعرنا مبدعا. حينئذ لن تكون مسألة العشوائية مجرد مقاربة أو استعارة. وحينئذ تؤدي عبارة Alea jacta est اللاتينية فعلا معناها في أنّ الزهر قد رمي وقضي”.
أمّا مثال تناقض الأحداث فيضعه في حادثة سرقة عصا يتعرض لها رجل أميركي مع زوجته. الزوج يروي الحادثة بطريقة والزوجة تستدرك في فصل آخر على رواية زوجها وتفندها وتناقضها وهما اللذان عاشا المشهد بتفاصيله معا.
لا لغة واحدة عنده لأنّ اللغة ليست واحدة
ولا حقيقة واحدة لأنّ الحقيقة شتّى
بل أخيلة لنا الحرية المطلقة في رسم معالمها ومعناها
هذه هي الرواية عند كابريرا إنفانته.
 
 
 * كاتب من الجزائر