لم تأتنا الأخبار والبيانات عن وجود أي حضور للحكومات المحليَّة في التعامل مع المتظاهرين، وإنْ حدث ذلك فهو حضورٌ خجولٌ.
غيابُ المحافظين بالدرجة الأساس عن مشهد التظاهرات تسبب بإحداث حالة من الغضب لدى الجماهير، مفسرين هذا الغياب بعدم الاهتمام، الأمر الذي أدى الى تفاقم الموقف وإصرار المتظاهرين على اقتحام مقار الحكومات المحليَّة والعبث بها في رسالة مفادها إنْ لم تستمعوا إلينا فلا حاجة لنا بكم، سنحرق مقراتكم فوق رؤوسكم، وهنا ليس بالإمكان توجيه اللوم للمتظاهرين، لأنَّ السلوك الجمعي سيكون هو الغالب في مثل هذه الأجواء، فقد شاهدتُ مقطعاً فيديوياً قصيراً لأبناء محافظة ميسان وهم يحطمون جدار مبنى المحافظة المشيّد من الحديد والاسمنت ويدخلون الى داخل المبنى، ولم تنفع جهود القوات الأمنية لمنعهم، ولعلَّ ما حدث في محافظة ميسان يعدُّ بسيطاً بالمقارنة مع ما شهدته جارتها ذي قار، أو واسط أو النجف أو الديوانيَّة أو بابل، أما بداد فتلك قصة أخرى تحتاجُ الى وقفات ووقفات لتحليل ما جرى فيها من أحداثٍ جسام..
أقول، ليس من المناسب جداً أنْ تغيب الحكومات المحليَّة في ظروف مثل هذه، والحديث موجَّه للمحافظين على وجه التحديد، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار تصويت مجلس النواب على تجميد عمل مجالس المحافظات في الوقت الراهن، من دون البت في أمرهم، إذ كان من المفترض بكل محافظ أنْ ينزلَ الى الميدان ويلتقي بالمتظاهرين وجهاً لوجه، يستمعَ إليهم ويتسلم مطالبهم، ويتحدثَ معهم بروح الأب لأبنائه، ويكاشفهم بالواقع والإمكانات المتاحة، ويخبرهم بما يمكن تحقيقه من مطالب آنياً ومستقبلياً، لأنَّ السواد الأعظم منهم من الشباب، ولا شك إنهم تواقون لأنْ يشاهدوا المحافظ بينهم يتحدث بلغتهم، فالكثير منهم يعتقد أنَّ كبارَ المسؤولين لا يشبهون البشر!.
نعم قد يتعرض المحافظ لاعتداءٍ أو كلامٍ لا يليق، في أجواء غضب جماهيري، ولكنْ قطعاً إنَّ الأغلبيَّة منهم سينصتون ويستجيبون، فهم لا يبحثون عن مغنمٍ أو منصبٍ، بقدر ما يريدون فرصة عمل بسيطة وخدمات تليق بالإنسان وتحفظ له كرامته، وهذه من أولى أولويات مهام الحكومات المحليَّة، وتأتي بعدها الحكومة الاتحاديَّة بموجب الصلاحيات التي رسمها الدستور، فالمحافظ في محافظته هو رئيس وزراء.
غياب المحافظين عن المشهد لم يقتصر على ساحات التظاهر، إنَّما امتدَّ الى أبعد من ذلك، فقد شعر الجرحى والمصابون، وكذلك أسر الشهداء الذين سقطوا خلال التظاهرات، بالحزن والغضب في آنٍ واحدٍ، عندما لم يشارك المحافظون بتشييع الشهداء ومراسم العزاء وتفقد أحوال الجرحى في المشافي لتطييب خواطرهم بكلمة طيبة، وربما ثمة استثناءات لهذه الحالة من قبل بعض المحافظين.
إنَّ مثل هذا الجفاء والتجافي من شأنه أنْ يزيدَ الهوَّة بين الناس والحكومات، ويهزَّ الثقة الرابطة بين الطرفين، في وقت ينبغي أنْ تكون الحكومات المحليَّة حاضرة بقوة بين الناس، لأننا دائماً نتحدث عن أنها حكومات منتخبة وفق آليات ديمقراطيَّة، وبالتأكيد إنَّ المنتخب يكون دائماً قريباً من ناخبيه، وإنْ كانت الديمقراطيَّة غير المفهومة سبباً في رفع وتيرة الاحتجاجات، ففي إحدى المحافظات مثلاً تم تغيير المحافظ ثلاث مرات في أقل من 24 ساعة، وفي العاصمة بغداد تغير المحافظ أربع مرات في دورة انتخابيَّة واحدة، ومثل هذا الارتباك يخلقُ حالة من اللااستقرار تلقي بظلالٍ سلبيَّة على الواقع والخدمات، لأنها ستسببُ تأخيراً في وضع الخطط وإنجاز المشاريع.
في ظل تقاطع السياسات، وأكاد أجزم أنَّ التخصيصات الماليَّة الممنوحة للمحافظات إذا ما تم استغلالها بنحوٍ سليمٍ ستثمر نتائج طيبة، نعم هي ليست بمستوى الطموح في ظل تهالك قطاعات التنمية كافة، ولكنها يمكن أنْ تُحدثَ تغييراً من خلال تشغيل المشاريع وتوفير الخدمات وفرص العمل، وهنا لن يكون الشباب بحاجة إلى التظاهر للمطالبة بمثل هذه المطالب التي تمثلُ حقوقاً أساسيَّة للمواطن مكفولة بموجب
الدستور.
لذلك هي دعوة للمحافظين والحكومات المحليَّة بجميع مفاصلها إلى التصدي لمهامهم وفي مقدمتها الاقتراب من الناس والاستماع إلى دقات قلوبهم قبل هتافاتهم، فإنْ وصل الأمر إلى الهتاف والتظاهر فمعنى ذلك أنَّ هناك خللاً تنبغي معالجته، والتأخر في المعالجة يُنتجُ لنا خللاً أكبر، وهنا سنكون مضطرين لمعالجة هذا الخلل بدلاً من المضي في البناء المطلوب.