في قرن من الزمان عاشه العراق كانت عمليات التحديث قد انعكست على ظهور حداثات عصرية في الفكر والأدب والفنون الجمالية التشكيلية وكذلك في المجتمع. والحداثة (Modern) تعتمد على موجّهات عدّة منها: العقل، والتقدّم، ومركزية الإنسان، والحرية، إلى جانب الحضور، والتمركز، والدلالة، والاحتراف، والجذريّة العميقة، والتأويل، والمقروء، والسرد، والنمط، والمصدر، والحتمية، الشكلية، والهدف والغاية، والتصميم، والتراتب، وغيرها من المفاهيم.
حداثة معطوبة
وفي عراق مرّت عليه عقود القرن العشرين، وفي ظل تطوّرات عمليات التحديث المطردة، ما كانت الحداثة تجد ذاتها على نحو حقيقي، لا سيما عندما تستبطن رؤية عدمية ضحيتها الإنسان، ومع ذلك ظهرت حركات حداثية في الفنون والآداب والفكر نهض بها أفراد وجماعات مصغّرة في كل المجتمع العراقي بمختلف مكوّناته، وكذلك حركات ليبرالية على صعيد الفكر السياسي والحزبي والجماعاتي، وجُلها كانت تصطدم بمركزيّة السلطة السياسية التي تعاقبت الحكم في العراق، خصوصاً تلك التي اتخذت الحزبية الأيديولوجية المتسلّطة، الواحدية والاستبدادية والدكتاتورية، طرقاً لها، لا سيما في أنظمة الحكم العسكرية بالعراق، لذلك بقيت الحداثة في عراق القرن العشرين منزوية تنسج خيوط بساطها بصعوبة راجفة وخاضعة في أحيان عدّة وفي بعض المراحل إلى أيديولوجيات السلطات السياسية الواحدية والدكتاتورية أو نراها مهزومة بإزاء سلطة الفتاوى الدينية، التحريمية والتكفيرية، فآثرت الحداثة العراقية الانزواء لتنعى قهرها الذي مُنيت به وتعيش شيئاً من هزيمة العقل، ومن هزال التقدّم، ومن ضياع مركزية الإنسان، ومن غياب الحرية التي تطمحها، فكان الأمل بتغيير جذري يسمح للعقل والحرية والإنسان أن يأخذوا دورهم الحقيقي في الحياة، فما
الذي جرى؟
حداثة فائقة
جاء التغيير الجذري المأمول ابتداء من نيسان/ أبريل 2003، لكنه حمل معه مشكلات جديدة كان منها خلخلة وضياع مُنجزات التحديث العراقي في القرن العشرين، وهزيمة جديدة مضاعفة لموجِّهات الحداثة كالعقل والحرية ومركزيّة الإنسان، ورمي الأنطولوجيا العراقية في أتون نسخة وقد تلبّست رداء الحداثة الفائقة (Ultra-modern)، بحيث اتخذت “البيان الواعي ذاتياً، والمتناقض ذاتياً، والمدمّر للذات”(1)، لا سيما أن هذه الحداثة الفائقة لا تدفع بالتي هي أحسن إنما همُّها «إدخال الأعراف والافتراضات وتقويتها بقدر ما هي تريد تدميرها وتهديمها»(2) لكون لهذه الحداثة هاله تدميرية كما تقول ليندا
هتشيون.
تعتمد الحداثة الفائقة أو ما بعد الحداثة بحسب إيهاب حسن(3) على موجّهات تتناقض مع موجّهات الحداثة؛ فلا يوجد هدف؛ بل يوجد «تلاعب»، وبدلاً من التصميم توجد «المصادفة»، وبدلاً من التراتب توجد «الفوضى»، وبدلاً من الإبداع الشامل يوجد «لا إبداع تفكيكي»، وبدلاً من التركيبية الرشيدة يوجد «المتناقض»، وبدلاً من المتمركز يوجد «المشتّت»، وبدلاً من المدلول يوجد «الدال» السريالي، وبدلاً من تاريخ عظيم يوجد «تاريخ منمنم»، وبدلاً من الواحدي البيولوجي يوجد «الخنثوي»، وبدلاً من النمط يوجد «المتحوّل»، وبدلاً من «الله» الأب يوجد «الطيف المقدّس»، وما أدراك ما الطيف المقدّس؟
لقد وجدت بعض مفاهيم ما بعد الحداثة، وبهذه المعاني، طريقها إلى عراق القرن 21، فالتغيير الجذري كان مؤسَّساً على مجموعة أفكار منها: تشكيل فكرة «النظام العالمي الجديد»، وفكرة «الشرق الأوسط الجديد» أو «الشرق الأوسط الكبير»، وطموحات من هذا النوع تقتضي نشر الفوضى وترسيخها عملياً؛ وعلى الرغم من أن كونداليزا رايس أعلنت في سنة 2005 عن نظرية «الفوضى الخلاقة»(4) التي لا بد أن تتشكّل واقعاً من أجل الشروع بتنفيذ نظرية الشرق الأوسط الجديد إلا أن هذه النظرية تعود إلى سنوات أقدم لدى الماسونية، على سبيل المثال، وغيرها؛ النظرية التي كانت ترزح في نفوس ونوايا المستعمرين الجُدد الذين سوّغوا لغزو العراق في سنة 1991 وفي سنة 2003 حتى أحلوا الفوضى فيه، والفوضى هي أحدى دعامات الحداثة الفائقة، لا سيما في جانبها السياسي، فكان ما كان من التدمير الشامل بانتظار الوردة الموعودة التي يرمون زراعتها في خرائب الفوضى التي كرّسوها بالعراق،
كل العراق.
لقد اعتمد المشروع الاستعماري الجديد في العراق على زعزعة ومناهضة الأسس التي ابتناها التحديث والى حدٍّ ما سوّغها التفكير الحداثي العراقي فسعوا إلى تدمير الأنماط الحيوية في أغلب مفاصل الدولة وفي الحياة المجتمعية، وإخضاعها قسراً إلى «المتحوّل» الذي يطال الثوابت والأنماط التي باتت تقليداً راسخاً في حياة العراقيين حتى أضحت المُتحوَّلات عديمة الدوام؛ فالطاقة الكهربائية أصبحت مرحلية في كل يوم؛ بل في كل ساعة، وأنظمة العمل تتم وفق عقد مرحلي، وإذا حدث وأصبح العمل دائمي القيمة - كما العادة في العراق قبل الاحتلال - فيأتي بالشراء المالي مدعوماً بالحزبية المقيتة وقد رأينا مهزلة بيع المناصب في غير مرّة وهي اليوم مستمرة، وهذا ضرب لفكرة الحتمية التنموية التي نادت بها الحداثة حتى شاع الاستعمار الجديد فكرة التشتُّت الفوضوي، فالنظام السياسي البديل يمضي وفق دواعي التناثر بعد أن كان ملموماً في عراق مركزي أو على فكرة المركزة، وكذلك إحلال تركيبيّة هشّة في كل مفاصل الحياة والدولة استناداً إلى تفكيكية الحداثة الفائقة، فحتى المُفكَّك فيها يخضع إلى التفكيك المُضاعف بغية ترسيخ الفوضى ومن ثمَّ العماء(5)، فلا يبدو النظام السياسي يسير وفق نظام متكامل الأطراف بعدالة حقّة وحرية ملتزمة سوى الاتفاق العميق على التلاعب وخداع الإنسان لإيصاله إلى تخوم الضياع والتيه واللاستقرار الذي تريدهُ الفوضى الخلاقة والليبرالية المفرطة وهي تصنع بشاعاتها فينا.
1. ليندا هتشيون: سياسة ما بعد الحداثية، ترجمة: د. حيدر حاج إسماعيل، ص 66، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009.
2. ليندا هتشيون: سياسة ما بعد الحداثية، ترجمة: د. حيدر حاج إسماعيل، ص 66، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009.
3. إيهاب حسن: منعطف ما بعد الحداثة، ترجمة: محمد عيد إبراهيم، ص 134 – 136، دار الهلال، 2016.
4. للمزيد، انظر كتابنا: (د. رسول محمد رسول: هيا إلى التنوير، ص 161 وما بعدها، تنويريات للنشر، 2019).
5. حتى التفكيك يخضع إلى التفكيك بوازع تفكيك المفكَّك. هذه رؤية الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930 - 2004). انظر كتابنا: (د. رسول محمد رسول: فلسفة العلامة، ص 263، دائرة الشؤون الثقافية، بغداد، 2015).