عبدالأمير المجر
في جلسة خاصة، تحدث أحد الأصدقاء عن الديمقراطية الهندية، مستعرضاً حجم الحريات الشخصية والجهوية، التي هي عماد اية ديمقراطية.. كلام الصديق جاء في سياق حديث كنّا نتداوله عن أشكال الديمقراطية ومراحل تطورها، تلك الكلمة التي تتسيّد خطابات أغلب السياسيين في العالم، ديمقراطيين وديكتاتوريين على حد سواء! الشيء الذي خلصنا إليه، هو أنَّ الهند لا يُمكن أنْ تحكم ولا يمكن أنْ تبقى موحدة ما لم تكن هكذا، فالشعب الهندي متعدد الأعراق والأديان، وإذا ما انفرد دين ما، مهما كان كبيراً، في فرض رؤيته الأخلاقيَّة والسياسيَّة، يعني أنَّ البلاد ستتفكك، ولعلَّ تجربة انفصال (باكستان وبنغلادش)، نهاية الأربعينيات أو بداية استقلال الهند عن بريطانيا، يعطي للهنود درساً، بأنَّ احترام الخيارات الفرديَّة والجمعيَّة، ضرورة لإبقاء البلاد موحدة، إذ ظهرت في الهند، قبل الاستقلال، حركة هندوسيَّة متطرفة تدعى (شدهي) أخذت تضايق الهنود المسلمين بقصد إعادتهم الى الهندوسيَّة، وبالمقابل تقدم إغراءات لمن يعود منهم طوعاً إليها، فدبّ التذمر بين المسلمين، وكان رد فعلهم هو التفاهم مع البريطانيين في السر، أثناء مفاوضات الاستقلال، من أجل ترتيب عملية انفصال المسلمين عن الهند، وهو ما حصل.. الشيء الذي تُحيلنا إليه تجربة الهند في تعسفها المتمثل بحركة شدهي، وديمقراطيتها المميزة لاحقاً، هو أنَّ البلدان التي تتعدد فيها الأديان والطوائف، يجب أنْ يكون نظامها السياسي منسجماً مع ثقافتها المتعددة، أي مدنياً، إنْ لم يكن ديمقراطياً بالشكل المثالي، أو تختار طريق اللا استقرار والحروب الأهليَّة.
في عراق ما بعد 2003 أقيمَ نموذجٌ للحكم يصعب فهمه أو تصنيفه، ففي إطاره العام يمكن وصفه بالديمقراطي، لكنْ في مرجعيته الدستوريَّة وبعض القوانين الأخرى، نجد أنَّه يتعارض مع مبدأ الديمقراطية بل ينسفها. فبالإضافة الى كون الدستور يمهدُ لتقسيم البلاد من خلال الفيدراليات، وقد تحدثنا عن ذلك كثيراً، نجد فيه متناقضات غريبة، إذ تتصدره فقرتان، تؤكد كل منها على ما يناقض الأخرى، فعبارة، لا يجوز سن أي قانون يتعارض مع الإسلام، تجاورها عبارة، لا يجوز سن أي قانون يتعارض مع الديمقراطية! ما يعني أنَّ فلسفة الدولة باتت ضبابيَّة وغير مفهومة، وهو ما يفسر ضبابيَّة التعامل مع بعض المفاصل التي لها علاقة بالحريات الشخصيَّة، وقد فتحت الباب لمناكفات كثيرة بين الإسلاميين والعلمانيين.
يذهب كثيرون الى القول، إنَّ الحريات الشخصيَّة تأتي بالدرجة الأولى في مسألة الاستقرار، لأي شعب، وبعدها تأتي الحريات الثقافيَّة فالسياسيَّة، ولعلَّ الدولة العراقيَّة، ومنذ تأسيسها، مطلع القرن الماضي، ظلت تحتفظ بمزية احترام الخيارات الشخصيَّة للأفراد، سواء في عهدها الملكي أو الجمهوري، لأنَّ العراق بلدٌ متعددُ الثقافات والأديان، وما تراه طائفة أو دين حراماً، تراه الأخرى غير ذلك، ويبقى كل هذا نشاطاً مجتمعياً لا علاقة له بالدولة ومؤسساتها ولا يؤثر في السلم الأهلي، أي إنها ظلت تحترم الخيارات المجتمعيَّة المختلفة، طالما انها لا تصطدم بمصلحة الدولة، ولعلَّ المفارقة، إنَّ هذا تمَّ في ظل أنظمة يراها كثيرون غير ديمقراطيَّة، بينما حصل التضييق على الحريات الشخصية في زمن الدولة الديمقراطية، بسبب (تقنينها) الخيارات الفردية للناس، فخلقت حالة تذمر غير مسبوقة، وصنعت حواجز نفسيَّة بينهم، ومهَّدت لتقسيمهم ديموغرافياً، ناهيك عن الذين هاجروا بحثاً عن هامش أوسع للحريَّة الفرديَّة، مذكرين هنا بأنَّ المحافظات هي الأكثر معاناة في هذا المجال، ما يعني أنَّ هذا الدستور يجب أنْ يُعادَ النظرُ فيه، كجزءٍ من عملية إعادة بناء الدولة، سواء في موضوع وحدة البلاد أو في علاقة الدين بالدولة، لتعزيز الوحدة الوطنية، وهو ما يطالب به الشعب اليوم.