مبادرات إنسانية في ساحة التحرير

العراق 2019/11/02
...

بغداد / هدى العزاوي 
كثيرةٌ هي التظاهرات التي عاشها العراق في تاريخه المعاصر، إلا أن تظاهرات اليوم تختلف في جوهرها وأهدافها، إذ انها تنادي بالخدمات وفرص العمل والعدالة والكرامة، وهذه المطالب يجمع عليها كل الشعب العراق، لذا فإن المتظاهرين يمثلون أطياف الشعب العراقي كله، فصوتهم واحد وأهدافهم واحدة، ما خلق هذا التلاحم الكبير بينهم، وهذا يظهر بشكل واضح بصور التعاون والتكاتف والألفة في ما بينهم وبطريقة غير مسبوقة لم تشهدها التظاهرات التي جرت في مختلف الأنظمة والحكومات السابقة.

ويقول الكاتب والاعلامي سعدون الفياض -الذي وثق بشريحة ذاكرته الكثير من الصور التي تعكس طبيعة الشخصية العراقية المعبرة عن نفسها بشكل أوضح في الظروف الاستثنائية: إن "ساحة التحرير الآن هي بيت عراقي بكل معانيه"، مؤكدا أن "هناك صورة اخرى تمثلت بروح المبادرة والتي تمثلت بعدم نسيان واجبات هي على هامش التظاهرات، فتشاهد الشباب ينظفون الأمكنة قدر الإمكان، والابرز هنا تلك الروح الشبابية التي تمكنت من التعبير عن نفسها بشكل مذهل".
فـ "ملائكة التك تك" كما يطلق عليهم الفياض، "يسطرون ملحمة قلّ نظيرها في إسعاف الشهداء والجرحى وحالات الاختناق بسبب القنابل المسيلة للدموع، وقد كانوا في وقت سابق يوصفون بأحد أوجه الاستيراد الخاطئ، لكنهم اليوم أصبحوا شريان التظاهرات وأحد أسباب نجاحها وديمومتها، وإنهم وهبوا وقتهم وما يملكون لإدامة الحراك، فتشاهدهم ببساطة على شكل إسعاف مصغر ووسيلة نقل لمن يريد التنقل بترحاب".
ويقول الصحفي على الصحن: إن "الكثير من أصحاب المواكب (الحسينية) والمواطنين يوفرون الطعام والمبيت طيلة أيام التظاهرات، كما أن البعض - وهذا ما شاهدته بأم عيني في مستشفى الجملة العصبية- يوزعون مبالغ مالية بين فرسان "التك تك" كمساهمة منهم في مساعدتهم لتوفير لقمة العيش إلى أسرهم، إضافة إلى توزيع مادة البنزين إليهم مجاناً، وبقي أن نقول إن المروءة والشجاعة والنخوة يمكننا لمسها بفرسان "التك تك"، وهناك مواقف أخرى تتسم بغاية الجود والكرم".
 
إسعاف مصغر
منذ ساعات الصباح الباكر وحتى ساعات الليل المتأخرة تقف طوابير طويلة من عربات "التك تك" التي يقودها شباب في مقتبل العمر كان مصدر رزقهم الشارع قبل أن تسخر جهودهم مجاناً لنقل الشهداء والجرحى والمصابين بحالات اختناق إلى المستشفيات القريبة كمستشفى الشيخ زايد أو الطوارئ أو الجملة العصبية، إضافة إلى إسعاف كبار السن أو المرضى.
وبالقرب من خزان الماء الرئيس في منطقة الباب الشرقي، يقف سائق "التك تك" مجيد كريم منتظراً أن يأخذ مهامه التي كلف بها منظم العربات وواجبات كل من سائق عربة، ويقول كريم: "يظن البعض أن عملنا هنا غير منظم، يذكر ان وزارة النفط قررت منح البنزين مجانا لاصحاب "التك تك" مبادرة منها بدعم المتظاهرين.
ولكن في الحقيقة هناك الكثير من إخوتنا الشباب واجبهم تنظيم عملنا هنا، فمنا من ينقل وجبات الطعام والماء وكل ما يحتاجه المتظاهرون إلى أقرب مكان إليهم، كما أننا نتعاون مع القوات الأمنية ورجال المرور وكل من يسعى إلى إدامة هذه التظاهرة، فضلاً عن واجبنا ومهمتنا الأساسية في نقل الجرحى والمصابين 
والشهداء".
 
النساء أيقونة التظاهرات
ويقول المتظاهر محمد العكيلي، إن "هناك ألفة ومحبة كبيرة واحتراما بين المتظاهرين لأنهم يشعرون بأنهم جاؤوا لهدف نبيل واحد، وهذا ما يفسر الأعداد غير المسبوقة من النساء والفتيات اللائي يشاركن إخوانهن من المتظاهرين حتى ساعات المساء المتأخرة".
الصحفي والشاعر عمران العبيدي، أكد في حديث لـ "الصباح"، أن "الفتيات شكلن أيقونة متفردة بتقديم المساعدات الطبية، كما وإن المرأة العراقية بشكل عام كانت حاضرة وهي تتصدر المشهد لتحول الساحات الى مطاعم جوالة وتشد أزر الشباب، وبعد أن تخف أعداد الجموع في الساحات تبدأ حركة دؤوبة للسيارات والعربات وهي تنقل كل ما يحتاجه المتظاهر طيلة يومه من مأكل ومشرب وعصائر وفاكهة وشاي وقهوة وحلوى وحتى قدور الطبخ".
ويضيف العبيدي، إن "الروح الواحدة هي السمة الأبرز في سلوك المتظاهرين بروح انسانية وتعاضد منقطع النظير، فالجميع عائلة واحدة تصر على صناعة فجر جديد وهذا ليس كلاما إنشائيا، بل على العكس هناك أشياء يصعب وصفها، ومن الصعب رصدها ونحن نشارك المتظاهرين وقفتهم، فلا تستغرب مثلا من فتى صغير يقدم لك المساعدة أو يوزع لك شيئا انت بحاجة اليه"، مختتماً أن "كل ذلك يعكس روحا عراقية جديدة في فهم جديد للحياة وإصرار على أن تكون التظاهرات 
سلمية". 
في ساحة التحرير نصبت سرادقات يعمل فيها ممرضون وممرضات مزودة بالأدوية والضمادات تستقبل المرضى والجروح البسيطة، وتقول إحدى الممرضات (رفضت الاشارة الى اسمها): إن "الكثير من المصابين يمكن علاجهم بالامكانيات البسيطة التي يوفرها الكثير من الخيرين، فضلا عن تعاون الكثير من الصيدليات التي ترفض أخذ أسعار العلاجات". ومن ضمن نشاطات "رابطة المرأة الصحفية" أحد التشكيلات المهمة في نقابة الصحفيين العراقيين، تنظيم حملة تبرع بالدم لجرحى التظاهرات والقوات الامنية والتي دعت خلالها رئيسة الرابطة زهرة الجبوري جميع الصحفيين الى التبرع بالدم، مؤكدة الدور المهم للمرأة "في مساندة أبناء الشعب العراقي وذلك عن طريق الجود بدمائهن للجرحى من أبناء هذا الوطن".
هاشتاك للتضامن
تنوعت المبادرات الانسانية التي انطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي لدعم المتظاهرين، فالفرق التطوعية كانت حاضرة أيضا لتوفير الكثير من المستلزمات التي يحتاجها المتظاهرون عبر إطلاق هاشتاك وبوستات تطالب ببعض المستلزمات، فضلا عن وجود عدد من الشباب الذين أخذوا على عاتقهم توفير الاقنعة الواقية والخميرة وكل مايخفف من ألم القنابل المسيلة
للدموع. 
هاشتاك # تبرعك في الدم ممكن ينقذ الحياة، هذه من المبادرات الانسانية التي لها حكاية عند المتظاهر مؤمل البهادلي الذي أطلق هذا الهاشتاك على مواقع التواصل الاجتماعي يطالب فيه "بالتبرع بالدم قبل التوجه الى ساحة التحرير لمساندة جرحى التظاهرات بغض النظر عن ميولهم وتطلعاتهم الفكرية والسياسية".
بينما أعلن الاعلامي أحمد الحاج، عن الدعم الاعلامي لما أسماه بـ "ثورة الأحرار" التي تتضمن نصب عدد من الراوترات ذات السعة العالية في ساحة التحرير والذي يتكون من خطين؛ الخط الاول الذي يخص الناشطين أصحاب الصفحات المتابعة والقنوات الفضائية للبث المباشر عبر الانترنت والخط الثاني العام للجميع".
وقد دخل مضمار السباق الانساني عدد من المحامين الذين أعلنوا عبر حساباتهم الشخصية بالترافع مجاناً عن المتظاهرين الذين تم اعتقالهم، كما كان للشرطة المجتمعية دور في توزيع الماء والعصائر بين المتظاهرين، فضلاً عن توزيع المنشورات التوعوية التي تخص التظاهر السلمي وتحذيرهم من مضار إحراق الاطارات والتأكيد على أن أفراد وزارة الداخلية موجودون لحماية المتظاهرين لا لقمع تظاهراتهم المشروعة.