مهمة المثقف الإصلاحية

ثقافة 2019/11/04
...

د. رسول محمد رسول
 
لا بد بداية أن نتوفر على فهم مغاير للمثقف التنويري، وهو ما يتطلَّب منا تعريفاً للمثقف، لا سيما أننا شهدنا - على الصعيد الشخصي - ولادة توصيفات للمثقف في شتى المجالات ومنذ غابر الأزمان كان. وكتابنا صورة المثقف في التراث العربي الصادر ببغداد في طبعته الأولى سنة 2011، والثانية بالعاصمة الإماراتية أبوظبي في سنة 2017 تحت عنوان المثقفون في القرن الأول الهجري، قد أشار إلى بعض هذه التوصيفات سوى “المثقف التنويري”.                
 كنتُ، وفي سنة 2011، توافرتُ على تعريف لـ “المثقف”، إذ قلتُ في كتابي صورة المثقف في التراث العربي: إن المثقف هو “الإنسان المُنتج للمعرفة المنظّمة الذي يهدف، ومن خلال هذه المعرفة، إلى تحقيق دور ثُلاثي الأبعاد؛ بُعد معرفي محض يتعلَّق بتخصُّص المثقف الحقلي، وبُعد نخبوي يتعلَّق بمجتمع التخصّص أو مجتمع الحقل المعرفي الذي يشتغل فيه المثقف تماثلاً مع أقرانه، وبُعد مجتمعي واسع يتحرّك المثقف من خلاله في المجتمع العام لتداول خطاب المعرفة ومعرفته في أوساط المجتمع بالانطلاق من مرجعيّات فكرية أو اعتقادية أو أيديولوجية أو جمالية، وعبر منهجية عقلية أو نقدية أو إيمانية أو تجريبية اختارها هذا المثقف أو قُدِّر له التفكير فيها ومن خلالها في الطبيعة والمجتمع والإنسان والوجود وما بعدهما أو وراءهما والمستقبل”( ). 
 لقد ظل هذا التعريف سائغاً عندي حتى سنة 2018 عندما عرّفتُ المثقف وفي كتابي هيّا إلى الإنسان بأنه: “إنسان”؛ بل هو “الضمير الجمعي في الإنسان قبل أن يتفيّأ - هذا الأخير - تخصّصه العِلمي حقليًا”( ). 
 أما ما يتعلَّق بتسمية “المثقف التنويري”، فيعود استخدامي له إلى سنة 2002 عندما ذكرته في محاضرة لي عنوانها “المثقف العربي.. الزمان وأسئلة العصر” كنتُ ألقيتها بالعاصمة الإماراتية أبوظبي، وتناولت فيها سؤال التنوير في سياق الحديث عن المثقف العربي. 
وعدتُ إلى استخدام المصطلح ذاته في سنة 2018 يوم كنت أعدُّ فصول كتابي هيّا إلى التنوير، وقد ذكرته مرّتين. لكنني أجد اليوم الحاجة أكثر من ماسّة إلى إعادة بناء مصطلح “المثقف التنويري” من زاوية محدّدة في كتابي هذا التديُّن والتنوير هي زاوية العلاقة بين التنوير والتديُّن أو العكس، فما هو موقف المثقف التنويري من التديُّن في وضعية القرن الحادي والعشرين وقد ودّعنا قرناً كاملاً شهد صوراً من العداء المتصارع، والدموي أحياناً، بين الطرفين الذي أوحى بالصراع والتصادم والاختلاف بينهما!
 إن المثقف هو موجود إنساني تكفيه إنسانيته الصادقة أن يكون تنويرياً عندما يفهم ذاته الإنسانية بوصفه إنساناً لكون التنوير لا يفكّر بالإنسان إلا بوصفهِ إنساناً. 
إن التنوير لا ينظر إلى الموجود الإنساني بوصفه مجرّد كائن بشري لا يسمو بكائنيته البشرية إلى مصاف الموجوديّة الإنسانية، وهكذا يسعى التفكير التنويري إلى الارتقاء بالكائن البشري إلى مصاف الموجود الإنساني.
 إن الدين في جوهره وفي سطوحه، لا سيما الدين الإسلامي، لا يريد للمخلوق أن يكون مجرّد كائن بشري يغرق في آدميته البشرية بمطامح غريزية؛ بل يريده أن يكون موجوداً إنسانياً في ضوء ما حباه خالقه (الله) بمكامن إنسيّة وافرة تميزه عن مجرّد الكائنية الآدمية أو البشرية؛ فالعقل ومُمكنات التفكير بالغد أو المستقبل لا توجد لدى المخلوقات الحيوانية سوى بدواع حسية، أما عند الإنسان فهي مُمكنات ظاهرة في مقدّمة طبيعته الذاتية والعقلية، وإذا كان الله هو خالقاً تنويرياً بالمطلق {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (النور: 35)، فإن الله أكرم الإنسان بأن يكون موجوداً تنويرياً؛ بل ذلك المهموم
 بالتنوير. 
 
الإصلاح التنويري
 وقدر تعلُّق الأمر بالدين، لا سيما الدين الإسلامي، لا يتعارض التنوير مع الدين لطالما إن كليهما عزَّز مكانة الإنسان في الوجود، فكلاهما غايته الإنسان الحُر في العيش المشترك، والتعارف بين الناس، وكذلك التفكير والنظر إلى
 الغد. 
 وإذا كانت للدين وصاية على الإنسان فهي لا تأتي قسراً؛ فـ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} (البقرة: 256)؛ ذلك إن الدين في جوهره لا وصاية له إلا على الإنسان الحر المتحرّر من مُجمل تأويلات الفقهاء أو المتفيقهين التي يُطالب - هذا المُجمل - بحصر الإنسان في زوايا لا يستطيع فيها - هذا الإنسان - أن يتحرّك بحرية تضمن إيمانه الحقيقي بالله؛ لذا فمن وظائف المثقف التنويري التصدّي لتأويلات من هذا النوع التي كثيراً ما أدّت، ولا تزال تؤدّي، إلى كوارث غالباً ما تُصيب الإنسان، فرداً ومجموعاً، بالأذى، لا سيما عندما يتحوّل المتدين الى راع للصوصية السياسية، كما هو الحال في العراق حيث تحول رجال دين الى رعاة لمثل هذه اللصوصية.
 إن الدين هو مشروع للإصلاح، ومَهمة المثقف التنويري أن يكون موجوداً إصلاحياً، ويمكن أن يأتي إصلاحه شمولياً على الصعيد الديني والسياسي والمعرفي والثقافي والمجتمعي. إن الإصلاح صفة المثقف التنويري العمومية، وتبدأ هذه المَهمة من ذات المثقف لكي يتصدّى للإصلاح عبر الانفتاح على الواقع بوصفه إنساناً منخرطاً في مفاصل الحياة والوجود.
 وفي شأن الإصلاح، كنتُ في كتابي نقد العقل الإصلاحي عندما صدر في طبعته الأولى سنة 2008، وفي طبعته الثانية سنة 2010، تطرّقت إلى تعريفات عدّة للمفاهيم المتعلّقة بالإصلاح؛ كالحقل الإصلاحي، والمعرفة الإصلاحية، والفكر الإصلاحي، والعقل الإصلاحي، والهويّة الإصلاحية، وكل ذلك في ضوء تجارب المثقفين العرب والعراقيين، ومنهم المثقفون
 الدينيون.
الإصلاح هو ما ارتضاه المثقف التنويري لنفسه ولذاته؛ بل لا بد له ذلك بوصفه فعلاً للمقومة الحقيقية. نعم الإصلاح فعل مقاومة حقيقي. 
وكم كان الشعراء والفلاسفة ورجال الدين الحقيقيين يقاومون مختلف أشكال التردي في المجتمع؟ لا سيما عندما يُخطف الإنسان من مزيته الإنسانية ويتحوّل إلى كينونة رعاعية بشرية فاسدة حتى إن بعضاً من هؤلاء المثقفين حمل السلاح بوجه الشر البشري ليؤكِّد مقاومته له انتصاراً للحرية وللإنسان، وكنت قد تصديت إلى تجارب مثل هذه في كتابي نقد العقل الإصلاحي، وقبله في كتابي الوهابيون والعراق الذي صدر سنة
 2005. 
 إن مَهمة المثقف التنويري الإصلاحية شمولية لا تتوقّف فقط عند الإصلاح الثقافي الذي يقصد إصلاح السلوك والعادات والتقاليد والأعراف؛ بل يمتد إلى أبعد من ذلك، كالإصلاح الديني، لا سيما مُجمل التأويلات الفاسدة التي تلتف حوال الدين في حدِّ ذاته تأويلاً مُغرضاً، وجعل هذا التأويل تعلة لتحقيق مصالح مادية أو معنوية أو إيديولوجية أو استعمارية أو لصوصية تلك التي يخوض غمارها رجال الدين أنفسهم من الذين يتوّلون تقديس ما يقدّمونه حتى صرنا نواجه جهلاً مقدساً ابتلينا به شر ابتلاء في حاضرتنا عبر التاريخ.