تعد بنية التضاد إحدى البنيات الأسلوبية التي تغني النص الشعري بالتوتر والعمق والإثارة ، وتقوم هذه البنية على الجدل ( الديالكتيك ) الذي يعني وجود حالة تناقض وصراع وتقابل بين أطراف الصورة الشعرية ، وغالبا ماتشتغل على شكل ثنائيات ضدية ، وهي العنصر الأكثر أهمية بين مكونات النص الشعري ، كما أن التنافرات والتصادمات في تشكيل النص تسجل ردود أفعال لدى القارئ ، وتمثل التضادات نقطة فراغ دلالي يحتاج إلى ملئها ، لأنه سيكون ضائقة لم يعهدها القارئ ، فيبحث عن كيفية تحقق التلاقي أو التلاقح
الدلالي .
إن اشتغال الشاعر عمر حماد هلال داخل اللغة بالغ الأهمية ، إذ “استطاع أن يشق لنفسه لغة خاصة” والمتتبع لشعره سيلاحظ العلاقات التي يقيمها بين ألفاظه ، وهي علاقات تحتاج إلى الوقوف
عندها :
قلق على صمت الدروب معلق
وتساؤل بين التساؤل يغرق
الموت يهبط فوقنا بجناحه
والجرح فينا بالجراح يرتق
فمغرب في روحنا ومشرق
أواه يا موتا بنا يتعملق
تغفو عيون الليل فوق عيوننا
وقبورنا بالميتين تحدق
في كل ثانية يعتق موتنا
وعلى الدروب نفوسنا تتدفق
وواضحة ههنا بنية التضاد :
(قلق على صمت )( وتساؤل بين التساؤل)
(الموت يهبط )(بالجراح يرتق)
(فمغرب في روحنا)( ومشرق)
ومثلما تشتغل قصيدة الشاعر على التضاد ، كذلك تشتغل على جدليات كثيرة منها ، جدلية المفارقة ، والمفارقة كما يقول ( جوته ) : “هي ذرة الملح التي وحدها تجعل الطعام مقبول المذاق” أو كما يقول ( كيركيكارد ) عنها : “ليس من فلسفة حقيقية ممكنة من دون شك ، كما يدعي الفلاسفة ، كذلك قد يدعي المرء أن ليس من حياة بشرية أصيلة ممكنة من دون مفارقة” ، وخلاصة القول إن الأدب الجيد جميعا يجب أن يتصف
بالمفارقة .
والمفارقة في شعر عمر حماد عامة وفي قصيدته هذه بخاصة تأخذ أشكالا عدة ، منها “مفارقة التنافر” كما في قصيدة “أنا اياك أعني»:
لا النار تفنى ولا الأحشاء تشتعل
لكنه الصبر صبر دونه الأجل
لا الليل ينسى ولا الأيام تكتمل
لكنما الليل دهر ليله الأزل
ولويشاء فؤادي عاف لي جسدي
دنيا تموت ودنيا فيه تنتقل
فما استراحت على اضلاعه رئة
تنفس الدمع نارا حين تنهمل
ويبدو أن المفردات المؤلفة لبنية التضاد في النص ، تعمل على انجاز مفارقة دلالية وصورية في ما بينها ، عبر عنصر الصراع الذي يحصل عادة بين المتضادات ، فـ “بما أن الكلمات المتضادة تصر دائما على إقصاء بعضها البعض ، فإنها تصبح سجينة طاحونة من الانزياحات المختلفة والممكنة التي توهم ببنية مفتوحة مستحيلة الإنهاء وذات نهاية اعتباطية” ، وهذه النهايات تعمل على مضاعفة طاقة الأداء الأسلوبي المنتج لجماليات القصيدة:
*( لا النار تفنى ولا الأحشاء تشتعل)
* (لا الليل ينسى ولا الأيام تكتمل )
* (دنيا تموت ودنيا فيه تنتقل)
إن التضاد بصيغه المتعددة يمثل أسلوبا يكسر رتابة النص وجموده بإثارة حساسية القارئ المتلقي ومفاجأته ، بما هو غير متوقع من ألفاظ وعبارات وصور ومواقف ، تتضاد في ما بينها ، لتحقق في نهاية المطاف صدمة شعرية يتعالى بها النص على قارئه ، ويحلق في فضاء جمالي خاص ، ويحرضه على الحوار والتفاعل ، وإعادة إنتاج المعنى ،ويختصر الشاعر عمر حماد هلال مشروعه في اللغة الشعرية ، حيث يبحث عن لذة ( البحث في المحرمات = التابو السياسي + التابو الاجتماعي ) وتصنيع الأسئلة الممنوعة أو المحظورة في اقل تقدير، كما في قصيدة (صبر ومجمرة) :
الواقفون على أمشاط أرجلهم
والمرجفون اذا ما حقهم هضما
هل ينظرون وفي أبدانهم مزقي
هل ينظرون اذا ما ليلهم دهما
إنــــي أقتّل ألفا كــــــــــــــــــــــــل ثانية
وفي ضلوعي مداد الموت قد ختما
هذي قلادة أمي..صوتها..ودمي
هذا الشهيد أخي للآن ما انهزما
وحين يقول كوهين : إن “الشعر يولد من المنافرة” ، فان المنافرة لها القدرة على نوع من الدراما المتطورة في النص ، حتى يصل تأثيرها إلى صناعة الإيقاع الداخلي للقصيدة ، وهي – المنافرة – شرط من توفر هذا الإيقاع :
سؤالك صار ينكره السؤال
وصبرك ليس تحمله الجبال
أتدري أن دمعك صار صبحا
ودمع الصبح يمسحه الزوال
ستصبر مثل أيوب وتدري
بأن الصبر آخره محال
وتكتنز قصائد الشاعرعمر حماد بتشكيلات من الضديات التي تصنع الدراما في االنص ، ففيها تتضاد الثنائيات والتنافر وغيرها لتلتقي وتثير
شهوة القراءة ، وبهذا يتحقق التماس والتداخل والتنافر بين الشيء وضده ، وهذا من معطيات النص الشعري الناجح
والمتفوق.