الــــمـــهـــمـــة لــــــم تـــنـــتــــهِ

بانوراما 2019/11/15
...

إيلينا بوكالوفا * 
 
ترجمة: انيس الصفار                                             
خلال شهر تموز 2019 حاول عبد المجيد معروف أحمد العاني، الذي يعمل ميكانيكياً في الخطوط الجوية الأميركية، أن يعطل انظمة الملاحة لإحدى الطائرات بمطار ميامي الدولي. جاء في لائحة الادعاء أن العاني استخدم مادة صمغية قوية لتثبيت قطعة من الستايروفوم الفليني داخل الطائرة، لكن الطيارين أحسوا بعملية التلاعب في الوقت المناسب قبل اقلاع الطائرة. هذه الفعلة سيئة بحد ذاتها، إلا أن الأمر الأشد إثارة للقلق هو ما تكشف، فيما بعد، من صلات بين العاني وعصابات  “داعش”،  الاجرامية إذ توصل المحققون الى إن العاني كان يحتفظ في هاتفه الشخصي بتسجيلات فيديوية تصور جرائم {داعش} بالاضافة الى تعليقاته الخاصة التي تضمنت أدعية الى الله بإنزال الدمار والأذى بغير المسلمين.
ما فعله العاني نذير بما يمكن أن يكون عليه المستقبل .. الذي لن يكون سوى مزيد من الهجمات الارهابية على امتداد شتى انحاء العالم، تستمد وحيها وروحها من فعال “داعش”.
ربما يكون عصابات الارهابية قد خسر معظم أراضيه في سوريا والعراق ولكنه لا يزال بعيداً عن الاندحار الكامل، وأي اعتقاد مخالف لهذا سوف يضع الأمن العالمي تحت طائلة التهديد ويعطي شعوراً زائفاً بالحماية والأمان ازاء أفعال مستقبلية شبيهة بما اقترفه العاني.
سمعنا من الرئيس الاميركي “دونالد ترامب” تصريحات عديدة يعلن من خلالها انجاز النصر على “داعش”. 
فقبل حلول نهاية شهر كانون الاول 2018 قال بالنص: “لقد ربحنا المعركة ضد داعش.” 
بعد ذلك شرع بعملية سحب للقوات الاميركية من سوريا، وبذلك تكون الادارة الاميركية قد ساوت بين أمرين، هما: الفقدان المادي للأرض، وهزيمة “داعش”. 
عندما حل صيف العام 2019 لم تعد لعصابات “داعش”  الارهابية أية سيطرة على اراضي خلافته في سوريا والعراق، وجاء شهر آذار ليعلن سقوط قرية الباغوز الواقعة اقصى شرق سوريا كآخر معقل  لتلك العصابات. 
في تموز 2019 كرر الرئيس ترامب اعتقاده بأن النصر على “داعش” قد اكتمل حين صرح قائلاً: “لقد استعدنا اراضي الخلافة بنسبة مئة بالمئة وباشرنا الانسحاب بسرعة من سوريا وسوف نكون قد خرجنا من هناك تماماً خلال وقت قريب، دعهم يعالجون مشكلاتهم بأنفسهم، فسوريا قادرة على معالجة مشكلاتها.. مع إيران.. مع روسيا.. مع العراق.. مع تركيا، أما نحن فنبعد عن ذلك المكان بنحو 11 ألف كيلومتر.”
 
ظهور جديد
بيد أن أي إعلان للنصر على “داعش” الآن سابق لأوانه.
فهذه الجماعة قد طوّرت منذ وقت طويل قدراتها في مجال عمليات التمرد وكانت تعد عدتها منذ أمد لنقل المعركة الى تحت الارض، وثمة مؤشرات عديدة على أن “داعش” تستعد للعودة.
يفيد أحدث تقرير قدمه المفتش العام لدى البنتاغون أن “داعش” آخذة بالانبثاق مجدداً من مناطق معينة داخل سوريا والعراق، ويقدر هذا التقرير أن الجماعة لا تزال تحتفظ بقوة تتراوح بين 14 ألف و18 ألف عنصر، بينهم ثلاثة آلاف أجنبي.
بالاضافة الى عديد قواتها الذي لا تزال تمتلكه في أماكن شهدت هزيمتها عسكرياً، لا تزال “داعش” تمارس نفوذاً وسلطة محسوسين على متابعيها عبر الانترنت. 
فقبل مقتله بشهر تقريبا، نشر ابو بكر البغدادي، زعيم عصابات “داعش” الارهابية ، رسالة جديدة ونادرة موجهة الى اتباعه، تشتمل على دعوة للحراك وتضمنت حثاً وتشجيعاً لمناصري “داعش” على مضاعفة جهودهم ضمن جبهات عديدة، مثل جبهة النشاط الديني، مستهدفة الاعلام والجيش 
والأمن. 
أشار البغدادي الى ان جماعته ترفض التسلم بالهزيمة، وقال مخاطباً إياهم: “جند الخلافة لم يضعفهم ما أصابهم ولا تزحزحوا أمام عدوهم.
” وما كان البغدادي يسعى اليه تحديداً هو تشجيع أتباعه على مساعدة عناصر “داعش” القابعين داخل السجون من خلال تنفيذ ما وصفه بمحاولة “إنقاذهم وتحطيم أبواب السجون التي تحتجزهم.
وبندائه هذا الذي حث فيه على ارتكاب أفعال منحرفة أثبت البغدادي أنه كان مصمما على مواصلة المعركة.
انتشرت رسالة البغدادي في كل مكان. 
الأمر الذي ينم عن أن “داعش” ما زالت تحظى بمتابعة واسعة على شبكة الانترنت. 
مقطع الفيديو الذي تضمن خطبة زعيم العصابات تكرر ظهوره عبر ما لا يقل عن 30 موقعاً على الشبكة، وقد استجاب انصار “داعش” في شتى انحاء العالم لرسالته من خلال إرسال صور أخذت لملاحظات مكتوبة بخط اليد على قنوات الرسائل البرقية الموالية لتلك العصابات.
تلك الملاحظات، التي وردت من 41 بلداً مختلفاً على الأقل من بينها الولايات المتحدة، تضمنت شعارات من وحي فكر “داعش” أو تجديد عهود البيعة للجماعة.
وسائل التواصل الاجتماعي لا يزال لها دور عظيم ببث دعاية “داعش”، وتشير تقارير عديدة الى ان العصابات  قد أعادت إحياء حملتها الشرسة عبر الانترنت. 
فقد أفاد “جون ميلر”، نائب مفوض شرطة نيويورك لشؤون المخابرات ومكافحة الارهاب، مؤخراً بأن قسمه شهد طفرة كبيرة في حجم رسائل العنف المتدفقة
عبر الانترنت. 
يقول ميلر: “لقد شهدنا مؤخراً قدراً فائقاً من الدعاية التي تدعو الى شن هجمات على الاراضي الاميركية، ونسبة كبيرة جداً منها تشير الى نيويورك، بوصفها هدفاً.” 
 
قدرات كبيرة
تشير هذه النشاطات عبر الانترنت الى ان قدرة “داعش” على التحريض لارتكاب اعمال ارهابية باسمها لم تضمحل رغم فقدانها الأرض. 
لقد تمكن عصابات “داعش”الارهابية خلال بلوغه ذروة شعبيته من اجتذاب اكثر من 40 ألف مقاتل اجنبي ينتمون الى 110 بلدان مختلفة، على أقل تقدير، وتوجههم نحو المناطق التي فرض نفوذه عليها بين سوريا والعراق، بيد ان أعدادا أخرى مجهولة الحجم تحالفت مع الجماعة من دون أن تشد الرحال اليها لأسباب 
عديدة. 
بعض هؤلاء المتعاطفين مع “داعش” اختاروا بدلاً من ذلك تنفيذ هجمات داخل بلدانهم، ومن بينهم شخص اسمه “عقائد الله”، الذي وضع قنبلة في محطة باصات وسط مانهاتن، سنة 2017 و”سيف الله سايبوف” الذي قاد شاحنة صغيرة وسط حشد من الناس في مانهاتن ايضاً خلال العام نفسه.
ونظراً لتجدد هجمة “داعش” الدعائية فإن انصار الجماعة، القدماء منهم أو المجندين حديثاً، قد يأخذون بتعاليمها ويبدؤون الضرب داخل بلدانهم.
الى جانب اولئك الذين لم يذهبوا ابداً الى سوريا أو العراق بمقدور “داعش” أن تعتمد على مئات المقاتلين الاجانب الذين تمكنوا من العودة الى
أوطانهم. 
بعض هؤلاء المقاتلين تسللوا عائدين قبل ان تتبنى كثير من البلدان المعنية اجراءات جنائية بحق المقاتلين الاجانب؛ تجاوباً مع قرار مجلس الامن الدولي رقم 2178 الذي أقر سنة
2014. 
هناك ايضاً آخرون جرى تهريبهم بنجاح على يد “داعش” نفسها، مثل عبد الحميد عبود الذي عاد الى اوروبا وأنشأ شبكة ارهابية مستغلاً موجات المهاجرين التي تدفقت لإدخال بعض أبناء جلدته.
عرفت شبكة عبود سيئة الصيت بتنفيذ مجموعة من الهجمات الارهابية المنسقة وسط باريس أواخر تشرين الأول 2015.
من المحتمل ايضاً أن يكون هناك مقاتلون كثيرون من الاجانب العائدين بانتظار ورود تعليمات من “داعش” كي يباشروا تنفيذ هجماتهم. 
وقد حذر مسؤولون أميركان من ان عصابات “ دعش “ الارهابية نجحت بنشر “مئات من عناصرها العاملة” في الاتحاد الاوروبي، كما تواصل الشرطة الدولية تعقب تحركات المقاتلين الاجانب نحو منطقة البحر المتوسط.
وتشهد اليونان نشاطا لشبكات التهريب وكانت مستعدة لتزويد عناصر “داعش” بوثائق مسروقة، بضمنها جوازات السفر، مقابل مبلغ زهيد لا يتعدى ثمانية دولارات.
من المؤكد أن السلطات كانت تتعقب العديد من المقاتلين الاجانب العائدين. 
كثير منهم صدرت عليهم أحكام وأدخلوا السجون، ولكن ثمة تحديات اضافية تتعلق بسجن المقاتلين العائدين.
أولها هو ان العديد من الحكومات تحاول جاهدة أن تتوصل الى نظام للسجون منسجم ومتماسك في ما يتعلق بالمقاتلين الاجانب العائدين الى بلدانهم في سجون يشيع فيها منذ الآن نشر ثقافة التطرف.
اكثر من هذا ان قلة من الدول فقط لديها ستراتيجيات لإعادة التأهيل لمرحلة ما بعد انتهاء المحكومية والخروج من السجن. 
على اساس الوضع الحالي فإن المقاتلين الاجانب العائدين سوف يغادرون السجن في مستقبل غير بعيد، فالولايات المتحدة يبلغ معدل محكوميات سجنائها المدانين بنشاطات ذات علاقة بتلك العصابات “داعش” الارهابية  13 عاماً تقريبا، وهذا معناه أن العديد من الاشخاص الذين انتهجوا خط التطرف سوف يكونون خارج السجون خلال سنوات قليلة.
فبينما كانت الحكومات الغربية تسعى للتوصل الى افضل السبل للتعامل مع نشاطات التطرف داخل السجون كانت “داعش” تعيد تكييف نفسها لاستغلال الأمر. 
لقد سبق للجماعة ان اعتمدت على اشخاص، مثل مهدي نموش وشريف شكات اللذين تم تجنيدهما ضمن صفوف التطرف وهما داخل السجن، لإجل تنفيذ هجوم 2014 على المتحف اليهودي، وسط العاصمة البلجيكية بروكسل وهجوم 2018 على سوق الكريسماس في ستراسبورغ. من السذاجة إذن التوقع أن تتوقف “داعش” عن التجنيد من داخل السجون.
 
مخيم الهول
إن كان الحكم بسجن عناصر “داعش” داخل اوطانهم يمثل شكلاً من اشكال التحدي فإن اعتقال هؤلاء في سوريا والعراق يثير مشكلات أصعب. فمنطقة شمال شرق سوريا تضم معسكرا تحتجز “قوات سوريا الديمقراطية” داخله نحو عشرة آلاف مقاتل ينتمون الى “داعش”، من بينهم نحو 2000 أجنبي، في سجون مقامة على عجل. تفتقر هذه القوات لإمكانية توفير مراكز مؤمنة لاحتجاز هؤلاء الاشخاص، وقد اصدر مسؤولون أميركان انذارات بإمكانية فرار مقاتلي “داعش” من سجونهم، وهناك تقارير تفيد بوقوع محاولات للفرار فعلا أثناء القصف وعمليات الاجتياح التركية الأخيرة للمنطقة.
الاكثر من ذلك أن هناك اعدادا كبيرة من نساء “داعش” واطفالهم محتجزون تحت ظروف مزرية داخل مخيمات للنازحين. فمخيم الهول على سبيل المثال قد أعدّ لاستعياب عشرة آلاف شخص، ولكنه يؤوي الآن سبعين ألفاً على أقل تقدير. يشمل هذا العدد اكثر من 11 ألف امرأة اجنبية وطفل من ذوي “داعش” والعديد من هؤلاء لا يحملون اوراقاً شخصية أو وثائق اصولية، وبلدانهم الاصلية لا تريد استعادتهم.
وبينما يبدو المجتمع الدولي أشبه بالمشلول ازاء الخروج بحل مناسب، كانت “داعش” سريعة الانقضاض، إذ أعادت نساء “داعش” إحياء جهاز شرطة الاداب سيئ الصيت داخل المخيم، وتفيد التقارير بوقوع عدد من عمليات الاعدام الوحشية. تشير تقارير أخرى الى إن “داعش” تمارس حملات تجنيد داخل ذلك المخيم، كما تنشط بتهريب الاشخاص من المخيم وإليه. ازاء هذه الاوضاع لا يسع المرء إلا أن ينتظر المزيد من نشاطات التطرف داخل هذا المخيم.
عند أخذ هذه التطورات كلها بالاعتبار يصبح من الخطأ والخطورة الاعتقاد بأن “داعش” قد هزمت، فوجود هذه العصابات  لم يعد اليوم مقتصراً على مناطق عراقية وسورية كان يفرض سطوته عليها، وإنما هو حضور عالمي اوسع.
 إن “ داعش”  الآن اكثر انتشاراً، وقد دخلت طور الاعداد لثورة لا ترحم. واليوم هو الوقت المناسب كي تأخذ الولايات المتحدة عودة “داعش” مأخذاً جدياً وتطور ستراتيجية واضحة لمقارعة الجماعة على مختلف الجبهات. وعلى الولايات المتحدة أن تبتكر سبلاً ووسائل تحول دون تمكن “داعش” من تحقيق مزيد من التجنيد وفي الوقت نفسه التعامل مع اولئك الذين جرى كسبهم الى صفوف التطرف وربما يكونون الان قيد الاعتقال. بخلاف هذا سنجد انفسنا نواجه معركة مستمرة مع 
“داعش 2”.  
 
* إيلينا بوكالوفا تحمل درجة استاذ مشارك في كلية شؤون الامن الدولي التابعة لجامعة الدفاع القومي