مصر تعبت من انتظار الليبراليين
بانوراما
2019/11/17
+A
-A
ترجمة: مي اسماعيل علا سالم*
قبل شهرين، فجّر مصري لم يكن معروفا سابقا حملة احتجاجات ضد الرئيس عبد الفتاح السيسي؛ وهي حملة تعارضها الحكومة والنخبة الليبرالية في آن واحد. فقد خرج الآلاف الى الشوارع مؤخرا مطالبين بخروج الرئيس السيسي؛ وكانت تلك الاحتجاجات مفاجأة لعدة أسباب. أهمها حدوث الاحتجاجات في المقام الاول؛ فهي أول حركة كبيرة تقوم ضد السيسي منذ وصوله للسلطة بعد انقلاب عسكري سنة 2013 ضد الرئيس السابق المنتخب ديمقراطيا محمد مرسي.
كان العديد من المراقبين المصريين يعتقدون أن الجنرال السابق قد حجب أي احتمال لاحتجاج منظم ضده، بعد حملات قمع قوية وغير مسبوقة ضد قادة المعارضة التقليديين سواء الليبراليين الى الاسلاميين. وهذا يقود الى المفاجأة الثانية في الاحتجاجات.
من خارج الحدود
نظر الناشطون المعروفون (ممن قادوا الانتفاضة ضد حسني مبارك سنة 2011، ويواصل كثير منهم نشاطهم في المنفى) بشك الى تلك الاحتجاجات. لكن المصريين تمكنوا من اختراق جدار صمتهم؛ بفضل جهود منفي آخر لم يكن يُعد سابقا من اللاعبين السياسيين؛ لكنه اليوم يواجه معارضة الحكومة والنخبة الليبرالية معا. بدأت الاحتجاجات بسلسلة من أفلام الفيديو التي قدمها “محمد علي”؛ ممثل مصري لا يتجاوز العقد الرابع من العمر، صنع ثروة من عمله لدى احدى الشركات الامنية الخاصة ويتخذ حاليا من اسبانيا سكنا له.
بدأ محمد باصدار تلك الأفلام بمعدل يومي تقريبا على موقعي فيس بوك ويوتيوب منذ مطلع أيلول الماضي، وشاهدها مئات آلاف الاشخاص، كما حققت بعضها مشاهدات مليونية. يتحدث محمد عبر تلك الأفلام مباشرة الى الكاميرا متخذا جلسة بسيطة، وهو يدخن السجائر وأزرار قميصه الثلاثة العليا مفتوحة.
تدور المواضيع الرئيسة لتلك الافلام بشأن سلبيات حكم السيسي وتأثيرات سياسته الخارجية. وتحدث محمد عن خضوع مصر لممالك الخليج الثرية؛ ومنها نقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير في البحر الاحمر الى السعودية، وفشل المباحثات مع أثيوبيا حول سد على نهر النيل. لكن الموضوع الرئيس كان فساد الحكومة؛ إذ يدّعي محمد الكشف عن معلومات عن اساءة الحكم التصرف بالموارد العامة
لصالح المقربين، بواسطة الجيش.
إحراج الرئيس
يقول محمد عبر أحد أفلامه أنهُ أُمِر بالمساعدة لبناء فندق من فئة سبعة نجوم بِاسم “ترايمف (الانتصار)” لأحد معارف الرئيس: “أخبر اللواء “شريف” (شريف سيف الدين) الرئيس عن ذلك المشروع؛ فأعطاه ميزانية مفتوحة، ولا أفهم كيف أننا فقراء جدا وهو يجامل الاصدقاء المفضلين لديه بفندق كُلفته أكثر من ملياري جنيه”. وقال عبر فيلمه الأول أن فيلا فاخرة بنيت لزوجة السيسي بمدينة المعمورة؛ لأنها.. “لا ترغب بالنوم على فراش سوزان مبارك”.
لكن الأهم هنا هو الاسلوب الذي يتحدث به محمد؛ فهو يتحدث بإيقاع اللهجة العامية الدارجة لمصري من الأرياف. كانت تلك الافلام مواعظ ألقيت مباشرة الى الاشخاص العاديين؛ أظهر المتحدث خلالها تفاصيل من نشأته المتواضعة.
وقد سرد كيف أنه ترك مهنة اسرته (صياغة المجوهرات) ليعمل متعاقدا مع الجيش لخمسة عشر عاما أيام حكم مبارك.
وبعد أن أثبت ولاءه للجيش؛ عاش حياة مترفة مليئة بالسيارات والمنازل الفخمة. كان ذلك الثراء الحديث نتاجا لنظام فاسد، كما يقول؛ وليس فقط نتيجة عمله الشاق، والعقود التي حصل عليها كانت تأتي إليه غالبا دون مزايدة؛ مقابل ولائه وصمته!
تُظهر أفلام محمد كيف أن فساد حكم السيسي أسوأ من مبارك.. وللإحراج، يسلط الانتباه على محاباة الرئيس لاقربائه؛ وهو سبب رئيس للانتفاضة ضد مبارك وبنيه.. فبعد فندق الملياري جنيه مصري (الدولار يساوي نحو 17 جنيهاً) من موارد الدولة لصديقه؛ أراد الرئيس بناء قصر لزوجته كلفته 250 مليون جنيه مع تحويرات بنحو 25 مليون جنيه. ثم يدرج محمد قائمة طويلة لمنازل خاصة بناها الرئيس، ومصاريف متهورة اخرى؛ منها- ستين مليون جنيه لحفل افتتاح مشروع قناة السويس الجديدة، أكثر من مليوني جنيه لجنازة والدته.
حجبت السلطات حسابات التواصل الاجتماعي لمحمد في مصر خلال ساعات من تحميل الفيلم الأول؛ لكن الافلام كانت قد انتشرت كالنار عبر مواقع التواصل؛ ووجدت صدى لدى المصريين الذين يعانون تدهور الحالة الاقتصادية لبلدهم. وأكدت كلماته شكوك المصريين (وآراء الخبراء) منذ وقت طويل: أن استثمارات السيسي الرئيسة العامة لم تحقق مردودا اقتصاديا، بل ساهمت برفع مستوى الفقر لدى أفراد الشعب الاعتياديين، وقوضت مزاعمه عن الفقر الوطني والحاجة للتقشف. اعتاد السيسي لسنوات أن يخبر المصريين في كل مناسبة أن الدولة فقيرة، وأن ليس باستطاعته تحسين حياتهم.. وعلى سبيل المثال قال سنة 2014: “لا استطيع اعطاءكم أي شيء، لن نخدعكم.. لا يمكنني اعطاءكم شيئا؛ ولا حاجة لسؤالي أن اعطيكم”.
احتجاج مثير للدهشة
واجه السيسي ادعاءات محمد مباشرة منتصف أيلول الماضي خلال مؤتمر للشباب. ولم ينكر الادعاءات مباشرة؛ بل قال مخاطبا المؤتمر: “يقولون “أنك تبني قصورا”.. نعم بالطبع فعلت. لقد بنيت قصورا رئاسية، وسأبني غيرها.. فهل هي لي؟ سأبني وأبني وأبني؛ لكنني لا أبني لنفسي، وليست باسمي.. لا شيء باسمي؛ بل باسم مصر. ويقولون لكم تحققوا من ثروة الأمة، وقناة السويس، وكل ذلك الكلام الرخيص. لا؛ أيها الناس.. لا”.
أعطت استجابة الرئيس العنيفة ضد تلك الافلام مصداقية لإدعاءات محمد، وزادت من نسب متابعته. ثم بنى زحم حركته بالدعوة لاحتجاجات جماهيرية ضد السيسي. وشكّل ما حدث بعد ذلك صدمة للكثيرين، إذ لبى الآلاف دعوته لاحقا. وصاحت احدى النساء ضمن المحتجين؛ في تبنٍ واضح لما تحدث عنه محمد: “لماذا يعيش هو في قصر ويأكل غيره من النفايات؟”. وكتب محتج آخر تعليقه مباشرة عبر يوتيوب من ميدان التحرير: “لا عمل لي، ولا مكان أقصده.. وأنا ضائع في كلا الحالتين”. من المثير للدهشة أيضا أن الاحتجاجات جرت رغم الانتقادات السلبية ضد محمد ودعوته، التي وجهها نشطاء ديمقراطيون بارزون؛ يعتقد الكثير منهم ان مصر لا يمكنها التعامل مع ثورة أخرى؛ خاصة إذا أُخِذ بالاعتبار قوة المؤسسة العسكرية بمواجهة معارضيها. ومن هؤلاء “وائل غنيم”؛ أيقونة ثورة سنة 2011؛ الذي قطع صمتاً استمر سبع سنوات ليدعو الناس الى عدم الثورة.
“انه يتحدث مثلنا..”
استفادت القنوات الرسمية من الهجمة المضادة على محمد من نشطاء الديمقراطية وروجت لأشرطة فيديو وائل غنيم، بينما انقسمت الحركة المعارضة للسيسي.. إذ شكك مناصرو غنيم بظهور “محمد علي” المفاجئ، ويظن بعض المحللين أن له ارتباطات بفئات ضمن النظام لكنها معارضة للرئيس؛ في حين شكك مناصرو محمد بعودة ظهور غنيم بعد سنوات من الغياب. لكن رسائل محمد ما زالت تتردد؛ رغم المعارضة شبه الموحدة ضده.
تقول امرأة مصرية: “انه يتحدث مثلنا ويبدو مثلنا، ويلعن الرئيس بطرق نتمناها جميعا. انه يُنفس عن غضبنا، فليس له أجندة ولا سياسة.. أين الخصوم ورؤساء المعارضة؟ جميعهم في السجن.. لكنه ليس جزءا من هؤلاء، لقد أصبح بطلا”. تبدو الموجة الجديدة من الاحتجاجات قادمة من قاع المجتمع المصري؛ ومن جيل جديد لا يرتبط بقادة المعارضة التقليديين. وبذا يكون محمد قد اجتذب بالضبط فئات المجتمع التي كان السيسي يرى فيها قاعدته. رغم أن الكثيرين استوعبوا قبضته الثقيلة؛ لكن محمد كان أول من سلّط الانتباه الى محاباته لأقربائه ومحاولاته لتأسيس نوع من الحكم العائلي. وبعيدا عن النخبة الليبرالية المصرية؛ أسس “محمد علي” اتصالا بالشريحة الأكثر تأثرا بسياسات الرئيس، ووجه اهتمامهم الى الاسباب الحقيقية لمعاناتهم المتزايدة. لقد آن الأوان ليبدأ السيسي الشعور بالقلق!.
* علا سالم صحفية
مصرية - بريطانية، تغطي أخبار الشرق الاوسط منذ عشر سنوات