تأخرنا الثقافي..الحقيقة والوهم

ثقافة 2019/11/25
...

نصير فليح
واحدة من المشاكل الرئيسة في ثقافتنا العراقية والعربية هي عدم معرفة مثقفينا أنفسهم بحجم التدهور الثقافي الذي نعيشه. وهذه الحالة تكرس المشكلة نفسها. فالجهل بالواقع الثقافي المتدهور يجعل معظم المثقفين - أو المحسوبين على الثقافة - بعيدين عن الإحساس بأهمية ما يترتب على هذه الحقيقة، من قبيل ضرورة العمل الجاد على تطوير المرء لمعارفه، مثلاً، بعد إداركه انّ ما تصوره كبيراً أو جيداً أو حتى “لا بأس به” هو أقل من ذلك بكثير. ولهذا انعكاسات كبيرة ومتشعبة ومهمة على مختلف جوانب الثقافة.
النسبية الثقافية:
هنا لا بد أن يظهر، أول ما يظهر، السؤال عن النسبية الثقافية، بمعنى انّ الأمور نسبية، وإذا كانت ثقافتنا في وضع معين، فهي بالتأكيد متأخرة نسبة الى ثقافات معينة ومتقدمة على بعض آخر. واستنادا الى سؤال كهذا لا بد من الإحاطة بالصورة العامة في العالم عموماً، لتكوين صورة واقعية عن هذه النسبية. كما لا بد من تحديد، ولو أولي، للعناصر التي يمكن من خلالها تقييم وضع ثقافة معينة، تقدمها أو تأخرها، وبالتالي تظهر ضرورة الاحصاءات والأرقام والمسوحات لأجل هذا التقييم. مع ان تأخرنا الثقافي شبيه الى حد كبير بتأخرنا في مجالات أخرى كالرياضة والعلم والتكنولوجيا، فهو امتداد لتأخرنا العام.
من المصادر المهمة في هذا الموضوع هو تقرير برنامج التنمية للأمم المتحدة UNDP الذي صدر عام 2003 عن واقع المعرفة في المجتمع العربي. التقرير يتضمن أرقاماً كثيرة عن العناصر الرئيسة في تقييم واقعنا الثقافي، مثل معدلات القراءة ونشر الكتب، وأوراق البحث العلمي، ومستوى التعليم والاكاديمية، فضلاً عن معدلات الترجمة (وهو ما تناولناه بتفصيل أكبر في كتابنا “واقعنا الثقافي”). وتلك الأرقام، لمن يطلع عليها، ستبين دون ريب حجم التأخر الثقافي في عالمنا العربي مقارنة بالعالم، لا بالنسبة للبدان الأكثر تقدماً على المستوى العالمي، بل مقارنة بكثير من الدول والمجتمعات التي تعتبر من العالم الثالث أو العالم
 النامي. 
كما ان المعلومات الصادمة والمؤسفة حول واقعنا الثقافي، رغم مرور ما يقارب اكثر من 15 عاما على صدورها، لا بد ان تكون صالحة في واقعنا الحالي بوجه الاجمال، ذلك ان العالم العربي لم يمر خلال الاعوام الماضية بحالة من الاستقرار والنمو الازدهار، بالعكس، مر بمرحلة من الصراع والتمزق والتدهور لا يمكن ان تكون ارتقت بواقعنا الثقافي مقارنة بالعالم المحيط بنا.
إنّ الكثير من الممارسات  المتخلفة التي نلاحظها في ثقافتنا (وهي بنت مجتمعها أولاً وأخيراً) لها صلة بالموضوع، من قبيل سطحية التفكير وعدم انتظامه وتدهور طرائق الحوار وما الى ذلك من جوانب رئيسة في كل وضع ثقافي. أما اذا تحولت المعلومات الشحيحة وغير الدقيقة وربما الخاطئة، الى “مراجع” ومصادر “لبحوث أكاديمية” أو ما شابه، فإن حجم المشكلة وخطورتها سيتضح أكثر بكثير.
التدهور الفلسفي:
من الجوانب المهمة ذات الصلة هي الهبوط الشديد في الفكر الفلسفي. فالثقافة الفلسفية تعوّد المرء على مجموعة من الخصال الفكرية والحوارية المتقدمة، بحكم طبيعة الموضوع الفلسفي. ذلك ان الفلسفة بطبيعتها تحتاج الى شمولية أكبر في التفكير، ودقة ونظام عاليين فيه، اضافة الى انها تبين مدى التشابكات في مواضيع أساسية قد تبدو للكثيرين من ضيقي الافق أو قليلي المعرفة “معروفة” و”محسومة”. وهذا التدهور الفلسفي في ثقافتنا يمكن ملاحظته بسهولة في واقعنا الثقافي، مع ذلك لنقتبس شيئاً من أحد المفكرين البارزين في
 عالمنا العربي.
يقول محمد عابد الجابري في كتاب له صدر في تسعينات القرن الماضي (قضايا في الفكر المعاصر، ص9): “فالفلسفة اليوم إما غائبة أو مهمشة، كما في أقطار الشرق. أما في المغرب العربي حيث كان للفلسفة مكان واعتبار في المدارس الثانوية والجامعات وسوق الثقافة عموما - وبكيفية خاصة خلال الستينات والسبعينات – فلقد تراجع حضورها وتقلص لأسباب سياسية في الغالب”. كما يشير الجابري في الصفحة نفسها الى أن: “الدولة اللاديمقراطية لا تتحمل “وقاحة” الفلسفة والفلاسفة...ولأسباب سياسية أيضا عادت “الدولة”، أو بعض هوامشها، تتحدث عن ضرورة الفلسفة لمواجهة التطرف...الخ. أما القوى الديمقراطية التي ترفع شعار “المجتمع المدني” فإن تصورها لمضمون هذا الشعار سيظل ناقصاً ما لم تحضر فيه الفلسفة. أوليس المجتمع المدني هو، أولاً وقبل كل شيء، مجتمع “المدينة”؟ أو ليست الفلسفة بنت المدينة، واكثر من ذلك روحها وقوامها؟” (المصدر نفسه، الصفحة نفسها). وهذا جانب مهم في التأخر الفكري العام، وفي اضطراب طرائق التفكير والحوار حتى بين المثقفين انفسهم. ذلك ان للفكر الفلسفي دورا مهما في صقل كل ذلك، كما أشرنا.
 
التدهور الترجمي:
أما بخصوص الترجمة، فإنّ الأرقام المتوافرة تشير الى تدهور مخيف. وغياب حقيقة هذا التدهور عن وعي وادراك الكثير من المعنيين بالشأن الثقافي، يعنى خللاً اساسياً في معرفة الواقع الثقافي. لنتصور شخصاً أو قارئاً أو مثقفاً قرأ كتاباً او كتابين أو حتى عشرة او عشرين كتاباً مترجماً عن موضوع ما، ولنقل الأدب الاجنبي أو الفكر العالمي.
 فإن الفرق سيكون كثيرا في تصوراته عن الموضوع وعن نفسه ومدى معارفه إذا عرف ان المصادر غير المترجمة هي بنفس العدد، او عشرة اضعاف، او مئة ضعف.
 وان ما قرأه يمثل ترجمة شبه موثوقة او غير موثوقة، أو أن ما صدر أغنى واكثر بكثير منذ تلك الايام التي صدرت فيها الكتب
 التي قرأها. وبالنسبة للتقرير الذي ذكرناه، فهو يشير الى مجموعة ارقام مؤسفة، مثل انّ ما يترجمه بلد مثل اليونان في عصرنا في عام واحد يعادل تقريبا ما يترجمه العالم العربي مجتمعا خمس مرات. علما ان اللغة اليونانية في عالمنا المعاصر لا تعتبر من اللغات الرئيسة حالياً مثل الانكليزية او الفرنسية او الالمانية او الاسبانية، فما بالك اذا عرفت ان ما تترجمه اسبانيا تقريبا في العام الواحد يعادل سبعة اضعاف ما تترجمه اليونان؟ وما بالك بعد ذلك بالترجمات الى الانكليزية والفرنسية والالمانية؟
لهذا الشعور بالتناسب والمقارنة دور رئيس في ادراك الواقع الثقافي وواقع المثقف نفسه. ان مظاهر عديدة من ضعف الاصغاء او الغرور المعرفي وما يترتب على ذلك من اشكاليات عديدة عويصة، ترتبط بقوة بغياب الصورة العامة لتأخرنا الثقافي في شعور ووعي وسلوك المثقف، وهو ما كان يمكن أن يكون على نحو مختلف كثيرا لو كان ثمة شعور عام بهذا التأخر، وبالفجوة الثقافية الكبيرة الموجودة كأمر واقع بيننا وبين العالم المحيط بنا.