لا تأخذ القيمة الجماليّة للنصّ مداها بمجرد انفعالها مع نشوة التلقي ما لم تكن منسجمة مع رغبة القارئ ومقتربة الى مشاكساته، فجمال النص خارج تقويم الحواس بل انه أبعد من كونه يحتمل إحساساً بالمعاينة وأقرب ما يكون من فكرة كونه مشخّصا بهيئة حلم، متصاعداً مع ذروته..
إنّ الأحساس بالجمال ينمو باطّراد عندما تأخذ فكرة الجمال هيمنتها من دون البحث عن باعث يشكل قيمة الجمال. كما الإحساس لدى المتلقي، حينئذ يصبح إحساسنا متوفراً على قيمته الجمالية أو عدمها، وذلك باستبعاد طغيان المألوف وترسيخ آخر غيره له القدرة على استنفار الضرورة بمنجى عن الإحساس العام بالفكرة. لذا فإنّ القراءة قبل أنْ تصبح مجالاً لصناعة الحلم وصياغة جديدة للذات وإعادة تركيب مستمرة للتجربة، وهيكلة منظمة للوعي، كانت تعني افتضاضاً للمعنى، المعنى القائم في السياق، الضائع بين المفردات، المعنى الذي يبادره المؤلف ويستبقه القارئ، ولكنَّ المعنى يمكن أنْ يستنبط خارج تقنيات القراءة بعديدٍ من الأمور أو بجملة من الشفرات والايحاءات الإشارية ذلك أنَّ القارئ كانت له مهمة مدرّبة ونافذة فالمؤلف كان ينشئ قارئاً في نصّه لأنّه يعلم أنَّ القارئ له خطوة واحدة في التأويل وذلك بمقتضى فاعليته النسبية في التأويل مما لا يمكنه الأخذ بيد القارئ نحو نصـه وبما لا يسعه أنْ ينتج نصاً يتجاوز به وعي القارئ يقيناً منه راسخاً ومتوارثاً. إنَّ الوعي ظاهرة باطنيَّة خفية تتأسس بالبعد النفسي والبيولوجي وإنَّه غير قابل لإضافة قيمٍ جديدة ولأنّه لا يمكن للوعي، الماضوي أنْ يأخذ أبعاده الوظيفيّة بمنأى عن مركزه العضوي فلأنّ الأشياء لا يمكن أنْ تتعقّل بدرجة ثابتة من الوعي أو حتى ببعضٍ من الإفرازات الناشطة من اللاوعي، فالنصّ المقدّس كان يعني لديهم نصاً مغلقاً عسير الفهم إلّا على ذوي الأفهام الفائقة، وهنا يبدو السؤال أكثر بديهـيَّة عن ثبات النصوص المقدّسة إنّها توقفت عند حدودٍ من الوعي أوصدت جهة من الدماغ وأغلقت استفهاماً، وتسبّبت بنكول الخلايا عن الإنتاج، وأمرضة الأوعية باتت كلها لا تبقي ولا تذر والسبب واحدٌ لا غير، الوقوف عند حافة الهاوية تنقطع وشائج الاتصال وتنهض أسئلة التداعي، ليس صِداميّة المقدّس وشموخه وشخوصة وإنّنا عاجزون عن تفكيك ألغازه أو أنه فوق مستوى التفكير كلّ هذا عائدٌ الى شرعنته وتلغيمـه وطلسمته بفنون من الأقاويل. ومن ثمّ فهناك أشخاصٌ لهم القدرة على التفسير وآخرون لهم القابليَّة على التلقي، هذه الإشارات تؤدي بنا الى فكرة النص المقروء هل له القدرة على إقصاء الإدراكات الواعية بحيث يمكننا ونحن نقرأ النص أنْ نحتفظ بوظيفته المعهودة؛ أي (الوعي) ولم نشتطَّ او نرتجّ أم أنَّ للوعي ذلك الترصين بحيث لا يمكنه أنْ
يتزلزل.
نّ الوعي واحدٌ لكنّه يتشظى بحسب الفكرة عن الأشياء، فالعالِمُ يرى والجاهل يرى والرؤية تتبلور أخيراً حسب ما ينتجه الجاهل أو العالم، ما الذي يضير مثلاً من قناعتي أنَّ الخط المستقيم لا يلتقي بمثله ويرى آخر غير ذلك، فعندما نقرأ نحن مجموعة من القراء نصاً واحداً متشابهاً سوف يلد هذا النص مفاهيم مختلفة بحسب عدد القراء لمجموعة من العوامل عضوية وسيكولوجية ووراثية وبيئية باحتمال واحد فقط باستيراد المعنى من نوافذ متعددة ومن رؤية الرائين أنفسهم هذا التشكيل سيكون معمار النص حتى المؤلف تتعدد نظرته وفق مزاجية متشابكة لأنّ المعنى هو في الأخير وليد مصادفات ومزاج وزوايا، هذا من جهة المؤلف فكيف بالقارئ، فالقراءة أخيراً ليست إنتاجاً ثانياً وإعادة وتوليف للنص كما يرى كثيرٌ من المتأخرين بل إنّها بناء وتهديد للقارئ نفسه (بناء مفاهيم وتهديد لغيرها) في إنشاء معنى قادم ما انْ نجد النص أي نص يفتح هو تلقائياً شكلين اثنين من المفاهيم المزدوجة أحدهما يذر الرماد في العيون حتى من دون تلصص منك والآخر يسد امامك كل أبواب الاحتمال فلن يبقى حينذاك سوى الركون الى مرجعياتك وإرثك وتراثك هو وحده السبيل في كشف المستور وهذا كله سوف ينسف ايضاً
الوهم الراسخ.
إنَّ النص بناءٌ مؤلفاتي إذنْ ما هي القدرة المتحققة في الوعي لكي نجعله حاضراً وفاعلا عند القراءة؟. كان النص بسيطاً غير مركّب؛ ممنهجاً نحو آليات الوعي الجاهزة والقارئ نفسه لم يتجرّد بعد من فكرته المحدودة عن الأشياء والمجتمع والعلاقات وعلاقات التشابه وشبكات الوعي متموضعة وفق هذه الرؤية، ما تجعله غير فاعل إزاء النص كبنية قائمة على اكتشاف الأشياء وتكثيفها نحو ذروتها؛ ذلك أنَّ الانتهاء الى معنى نهائي في النص يجعل منه أداة مغلقة دائرة ذات مركز واحد. وفيما لو كان بمقدور المؤلف في هذه العملية (عملية الثبات) ثبات المؤلف في نصّه وثبات القارئ في تأويلاته أنْ يأخذ هذه النصوص بوعي يتجاوز به آليات القراءة من هنا لم تعد القراءة بحثاً عن معنى يراد استنباطه أو خلافاً بين معنـيين نسعى الى التوفيق بينهما بقدر ما تعد قطيعة بين المؤلف المأزوم بأحلامه والقارئ المأسور بوعـيه وسوف تمتد هذه القطيعة الى ذخيرة النص نفسها فيغدو المؤلف مغترباً وغريباً على نصـه؛ إنّنا هنا يبدو وكأنّنا غمطنا حق القارئ في الممارسة والاختيار من دون الالتفات الى عمليات الإرهاص التي هي منطلق وعي القارئ نحو الاكتشاف. لأنَّ القارئ وحتى قبل أنْ يجيئه ذلك النص بهذا المعمار الفائق والمصمم نحو تكنولوجيا وعيه كان مفخخاً، فثمّة اتفاق مسبق بين المؤلف والقارئ بين هدف الكتابة وسعي القارئ وتوقعه لأنَّ البحث عن قارئ (مؤلف ثان) للنص أصبح يسيراً في العقود الأولى من القرن المنصرم وذلك بفعل تعدد طرق الاكتشاف (اكتشاف الأنا) ودفعها الى اختيار أمثل وسط تعدد الاختيارات وأصبح للقارئ الخيار في البحث عن أناه في أي نص يشاء مستتبعاً ومستجلياً طاقاته الخياليَّة والإدراكيَّة ودافعاً ذاته نحو وظيفتها في القبول أو الرفض، وكلما كانت للقراءة وظيفة تشخيصيَّة للأنا أمام اختياراتها كانت لها القدرة على توليد تشخيصات أخرى في قراءات متعددة، وبذلك فإنّ القراءة هي عروج الأنا نحو كمالها المعرفي والبيولوجي كما هو الشأن في أحوال الصـوفي وإبحاره نحو الكشف والمطلق وصولاً الى الحقيقة، وإذا كانت هناك طرقٌ ومقامات تتكشف أمام المريـد في طريقه فهناك جملة من وسائل الاتصال تترتب بموجبها عملية الاستجابة، فبـنية النص (أي نص) لا تفرض استجابتها بمجرد قراءتنا لها من دون أنْ تتحكّم في قبولها عوامل خارجة عن تركيب البنية ذاتها أولاً، ومدى فاعليـة النص في الكشف عن كينونته وقدرة القارئ على بلورة معنى قادم على تراكمه المعرفي والنفسي ثانياً، ممزوجاً بقدرة النص وسلطته للأخذ بناصية القارئ.