العلاقة مع الموروث

ثقافة 2019/11/30
...

جاسم عاصي
الفنانة ساجدة المشايخي تميّزت باستلهامها للفنون عبر عصور ما قبل التاريخ، وحصراً ممكنات الفن السومري. فقد عملت على دمج العالق في الذاكرة البصرية، بما تنتجه مشاهداتها الآنية، مستفيدة كثيراً من طروحات جماعة بغداد للفن الحديث. فهي من المواكبين لحركتهم وعطائهم الثري. يظهر على لوّحاتها التعشيق بين ما هو موروث وما هو متحقق من رؤى معاصرة. فهي إذ تتعامل مع الواقع بهذه الحساسية الفنية، لا تغادر ما هو موروث، سواء كان الحراك الفني القديم في تشكيلات المجسمات أو حكايات ومرويات ألف ليلة وليلة
إنَّ العالق من مثل هذه المتون يبدو ذا تأثير في تفاصيل اللوّحة ما بين هذه المتون وبين رؤيتها المعاصرة، إذ اعتمدت التعشيق، يعني تعلقها بالحاضر وتوسيع رؤيتها الفنيَّة. ومع ما عمل عليه فنانو جماعة بغداد للفن الحديث كجواد سليم بما استثمره في أعماله من مثل هذه الرؤى، خاصة ملحمته نصب الحريَّة، وبغدادياته. والفنانة «المشايخي» دأبت على مثل هذا الحراك الذي نمَّ عن ثقافة شاملة للتاريخ الفني أولاً، وللممكنات التي تعزز القيمة لفنها ثانياً. لذا نجدها تستدرج المعرفي وتقوض الثبات في هذا الحقل، ما يجعل لوّحتها تتجدد، وتستقدم الثري من الاقتباسات والمُعينات على النهوض في اللوّحة. وهذا ما يجعلها تقترب من اهتمامات كبار الفنانين العراقيين ومن جايلتهم واشتغلت معهم في الحقل المعرفي والفني ذاته: (جواد ونزيهة ونزار سليم) وكان هذا الاقتراب لم يؤد إلى ضياع الهوية الذاتيَّة. فللفنانة خصوصيتها في طرح الشكل العام في اللوّحة. كذلك التعامل مع الأجزاء بخصوصية واضحة، لا سيّما الألوان والخطوط، خصوصاً في لوّحاتها التي عالجت وضع المرأة. أي إنها لا تبتعد عن أسطورة وجود المرأة وتمثـّل النصوص البصرية في التشكيل لوجودها ولحراكها في المتون الحكائيَّة. لذا نرى أنَّ المرأة تحقق خلال وجودها في كادر اللوّحة بعداً رؤيوياً ذا صلة بموقع الأنوثة اجتماعياً. وهذا ما يبرز في سرديَّة ومرويَّة اللوّحة. فالمرأة ضمن الكادر، لم تكن على استقرار يؤكد وجودها كموديل، وإنما هي ضمن حراك أسري ــ اجتماعي، محققة بذلك وجودها كأنثى، مستجيبة لمستويين من الوجود الثقافي من كونها سليلة الأم الكبرى في التاريخ ودورها في نصوص الملاحم كما هي (ننسون) الأم في ملحمة جلجامش وعشتار في علاقتها مع مجموع الآلهة ودموزي ــ تموز. من هذا نجد أنَّ امرأة (المشايخي) تقترب من قريناتها في التاريخ القديم، لا لشيء سوى لتحقيق ذاتها وذات الأخرى من أقرانها. وهذا ما يفرزه الحوار الصامت في كادر اللوّحة الذي يبدو صائتاً على صعيد المتحقق الفني باعتبار أنَّ اللوّحة شعرٌ صامت. فقد أوحت الألوان والخطوط بذلك مباشرة. فهي كثيرة العناية بجمالية جسد المرأة، خاصة الوجه. فالخطوط التي تقترب من التكعيبيَّة لم تُضعْ قابليَّة الجسد الأنثوي على النطق والحوار مع الجسد الآخر من جهة والألوان من جهة أخرى.
إنَّ هذا التحاور في وجود المرأة هو الحجر الأساس الذي اعتمدته الفنانة لتحقيق وظيفة الفن إزاء متطلبات الوجود. إنَّ جمالية المرأة باقترابها من الأخرى يحظى بما هو متوفرٌ من موازنة في الشكل الفني لوجود المرأة والمرأة المجاورة. فالأجساد على توازن، كذلك حركات الأجزاء من الجسد، مستجيبة كما تظهر لحوار الوجود المادي والمعنوي لها، بحيث لا يبتعد عن اهتمامات فناني جماعتها عن العناية بأجزاء الجسد على اعتبارها تمتلك نمط العطاء والتخصيب، فهي رمزٌ للخصوبة. وهذا واضحٌ من ابتعادها عن طرح الجسد الأنثوي كشكل للمتعة، بقدر ما انوجد الجسد من باب تحقيق قدرة الأنوثة على العطاء الثري بوصفها تمثل الأرض في تشبيهات الميثولوجيا (نساؤكم حرث لكم). من هذا نرى أنَّ التضخيم الحاصل على أجزاء الجسد، إنما ليحقق قدرة العطاء والنماء الذي ينطوي عليها. كذلك الوجود الثنائي في كل اللوّحات، أي وجود المرأة وقرينتها، إنما حقق نوعاً من التآلف الحاصل بين الاثنين وبالتالي مع مجموع النساء. ثم الاستجابة لمتن الحكاية الموروثة لعلاقة المرأة كحكائه من طراز خاص في مجالس النساء، كذلك حصل خلال هذا التآخي الجسدي بين الاثنين نوعٌ من التلقي من هذا الطرف على الطرف الآخر. ظهرت المرأة على نمط اتخذ له مشهداً فنياً يختلف عما كان في لوّحاتها السابقة، وإنْ بدا نسبياً في بعضها، غير أنه برز كمتغيّر متدرج أو جدلي، خضع للعلة والمعلول. فالمرأتان على سبيل المثال المحاطتان بهالة من الأشكال الهندسيَّة اللوّنيَّة، والتكعيبيات التي شكّلت الجسدين والأقواس ذات اللون الأسود والأهلة والدوائر، قد جسدت بشكل فني راقٍ وغير صادم للبصر، فالألوان المتآخية والخطوط والأشكال أسهمت في خلق متن فني جسّد مكوّن المرأة على مهابة واضحة، منعكسة خلال ألفة الألوان والخطوط وبساطة طرحها كفعلٍ فني.
أما الوجهان الظاهران في اللوّحة فهما على تناسق جمالي فاتن ببساطة طرحه أولاً، وأصالة صورة المرأة العراقية وخاصة المرأة السومرية ثانياً. وهذا ما اتضح على شكل العينين ودوران الوجه ورشاقة الأنف. لقد هيّمن الإرث القديم بكل أشكاله وممكناته على ملَكة الفنانة، إذ أنتجت مقاربات بين القديم والمعاصر بجديَّة فنيَّة عالية. أما في مجال التجريد، فإنها خلاله أبقت العلامات الممكنة للتعبير عن وجود المرأة بالرغم من غياب المباشر من وجودها المادي. فقد أسهمت حركة الفرشاة في خلق نمطٍ من الحركات الفنيَّة التي استغنت عن وجود الجسد المادي الفعلي، مكتفية
 بعلاماته الثريَّة.
 
واقع المرأة وفاعليتها
إنَّ المرأة في لوّحات الفنانة مكتفية بذاتها. بمعنى لم تعمل على إظهارها على الموّقف الضعيف أمام ظواهر الحياة وتحكم العادات. لكنها بطبيعة الحال ملتزمة بشروط وجودها من دون التفريط بكينونتها. وهذا تعكسه طبيعة الهيئات التي تُظهرها الفنانة للمرأة مهما اختلف العمر. فهي ذات استقلاليَّة ذاتيَّة على صعيد ما تتركه موجبات اللوّحة من خطوط وألوان. فهي أقرب إلى نساء (جواد ونزيهة). وتتخاطر مع نساء الفنانة (عفيفة لعيبي)، غير أنَّ الاستقلالية الظاهرة على الهيئات والأفعال مختلفة تماماً. فجميع ما ذكرنا من آثار فنيَّة تتميّز بخصائص ذاتيَّة، لأنها ذات منطلقات متقاربة، وهي تتعلق بالأمكنة، أو ما نطلق عليه الوجود الشعبي في المُدن. فهم وكما ذكرنا في الاستهلال يعملون على تنقية مفردات الواقع، والعناية بالجسد الأنثوي المختبئ بالحجاب ذي الصيانة الأخلاقيَّة، بسبب تعلّق المرأة بالحجاب الأسري والاجتماعي.