في ذروة شيخوخته يتأمل ايريك هوبزبوم التاريخ حيث يسرد حكايته الخاصة من خلال صورة ارشيفية تجمعه مع آخرين، من أخوته وجيرانه، للكشف عن المسارات المتباينة لذواتهم في العصر التراجيدي للقرن العشرين. (خمسة أطفال صغار مع فتاتين يافعتين وقفوا أمام عدسة الكاميرا قبل ثمانين سنة على سطيحة بيت في فيينا، غير واعين، مثل آبائهم وأمهاتهم، أنهم مطوقون بحطام الهزيمة ،إمبراطوريات مدمرة واقتصاد منهار.
غير مدركين، مثل آبائهم وأمهاتهم، أن عليهم أن يشقوا طريقهم عبر أصعب حقب التاريخ وأشدها فتكا وتدميرا وثورانا وتطرفا) في هذا الكتاب تكمن نبضات التاريخ المعاصر ونرى تموجاته مسراته وأوجاعه من خلال السيرة الذاتية لهوبزبوم المفكر اليساري، والمؤرخ الأشهر في العالم خلال العقود الأخيرة.. يقول (لقد عشت تقريباً معظم سنوات قرن يعتبر أكثر قرون التاريخ الإنساني روعة وترويعا). اختص هوبزبوم بنبش وتحليل وتقويم التاريخ الحديث، بدءاً من القرن الثامن عشر، من منظور منهجي علمي، بستمد من الماركسية ولا يكتفي بها، بل يستفيد من كشوفات المناهج الحديثة في حقول العلوم الإنسانية المختلفة، لاسيما علم الاقتصاد حيث اختصاصه الدقيق هو التاريخ الاقتصادي. والمرحلة التي غطاها تلك التي اندلعت إبانها الثورات الكبري ( الثورة الفرنسية، ثورة الاستقلال الأمريكية. الثورة البلشفية في روسيا ) فكتب عنها وكتب عن تاريخ الرأسمالية بمحطاتها المتعاقبة. كما أنه وصف القرن العشرين بعصر النهايات القصوي فألف كتابا بهذا الخصوص. أما مؤلفه (عصر مثير) فكان للاجابة عن سؤال الهوية، وتحديد موقع الذات في الزمان والعالم، وعرض كشف حساب لسنوات العمر المديدة. وكان يأمل أن يقرأ (كمدخل تمهيدي لأكثر القرون الاستثنائية روعة وفرادة في تاريخ الجنس البشري من خلال رحلة إنسان واحد لايمكن لحياته أن تحدث في أي قرن آخر).
مسرح القرن
يمسرح أريك هوبزبوم في (عصر مثير) الدراما السياسية والوجودية للقرن العشرين بوجهها التراجيكوميدي، من منظور ذاتي يسعى للتخفيف من غلواء المناهج الصارمة التي أعانته، قبل ذلك، مؤرخا في تحليل وتقويم تحولات القرنين الأخيرين اللذين سبقا القرن العشرين. وتقديم خلاصة مكثفة لإعادة رسم التاريخ الشخصي على خلفية من تموجات وانقلابات عاصفة لأحداث مثيرة وسامية وأخرى حزينة ومرعبة.
أي أنه جمع بين الإنجاز الإنساني الرفيع والعظيم الذي حول نمط حياة البشر نحو الأفضل، وبين أسوأ صفحات الهمجية المتمثلة بجرائم الإبادات الجماعية والحروب التي أودت بحياة أكثر من 180 مليون شخص في أنحاء العالم خلال مائة عام.كاشفا عما يمكن أن تنطوي عليه نفوس بعض البشر، وهم كثر، من حقارة وخسة ونزوع مرضي نحو القتل والتدمير. ما يجعل من حياة هوبزبوم ذات أهمية ومغزى هو أنه ألفى نفسه مذ ولد على تخوم لغات وثقافات وحضارات متباينة، وإن كان في ضمن المحيط الأوروبي الغربي، أضفت على هويته طابعا مركبا وملتبسا. وكان عليه في ضوء ما رماه إليه قدره أن يحسم خياراته ويحدد موقفه، ومن ثم موقعه في خريطة الثقافة الأوروبية والعالمية للقرن العشرين. وهو القرن الذي يقول عنه أنه بدأ متأخرا مع اندلاع الحرب العالمية الثانية في العام 1914 وانتهى مبكرا في العام 1991 مع انهيار المنظومة الشيوعية وبروز عصرالعولمة. ووجد لزاما عليه أن يتساءل وهو يعيد بناء تجربته (عن كيفية فصل الذاكرة عما أعرفه الآن كمؤرخ، وما أفكر به الآن بعد عمر من التأملات السياسية والمناقشات والمجادلات) كان من أب إنكليزي، يهودي، ولد في فيينا وعاش طفولته وشطرا من شبابه فيها قبل أن يتركها وإلى الأبد في العام 1931. حمته جنسيته الإنكليزية يقول (ليس لدي التزام عاطفي وجداني بممارسة دين سلفي، ناهيك عن الالتزام بتأييد دولة/ أمة، صغيرة، متشربة بالروح الحربية العسكرية، مخيبة للآمال ثقافيا وعدوانية سياسيا، تطالبني بأن أتضامن معها على أسس عرقية عنصرية).
النشوة الجماعية
استهواه حقل التاريخ الحديث والسياسة والفكر الماركسي ومهنة التدريس والكتابة. انتمى إلى الحزب الشيوعي البريطاني وكان من أبرز قادته ومفكريه. وقد تسبب انتماءه لذلك الحزب الصغير بعدد أعضائه في بلد رأسمالي متقدم مثل بريطانيا بمشكلات أعاقت تقدمه الوظيفي لكنه بقي مخلصا لأفكاره وخياراته السياسية على الرغم من أنه لم يكن دوغمائيا.
وكانت له آراؤه المستقلة في شؤون السياسة وأحداثها إلى الحد الذي أربك علاقاته مع رفاقه من غير أن يصل الأمر قط إلى فصله من الحزب. لقد كانوا بحاجة إلى اسمه وشهرته ومكانته الأكاديمية لتعزيز مكانة
الحزب.شهد هوبزبوم، الحروب الساخنة الكبرى، وفصول الحرب الباردة بين القوتين الأعظم (أميركا والاتحاد السوفييتي) بدءا من الخمسينيات.. كان لا يزال مراهقا حين تسلم هتلر السلطة. ولأنه حسم خياره الماركسي منذ ذلك الوقت فإنه، مع أقرانه (كنا دوماً على ثقة مستمدة من الماركسية بأن نصرنا محتوم ومحفور في نصوص كتب التاريخ في المستقبل) وفي هذه المرحلة يصف ما يسميه بالنشوة الجماعية التي خبرها مع من هم مثله من أبناء جيله في إيمانهم بالعقيدة الشيوعية التي الهمته في سلوكه وإبداعه الفكري، مستعرضا مكوناتها الخمسة الإشفاق على المستغلين، والجاذبية الجمالية لنظام فكري كامل وشامل، والمادية الديالكتيكية، وقليل من رؤية بليك للقدس الجديدة، والكثير من العداء الفكري للنزعة المحافظة). هذا الإيمان المنقوع بشيء من العصارة الرومانسية طبع شطرا واسعا من حياته قبل أن يجد نفسه في بلده الأم إنكلترا هاربا من الجحيم التي أجج إوارها هتلر في قلب أوروبا. وأيضا بعد ذلك بمدة ليست قليلة. لكنه كان ينضج مع تراكم تجاربه الحياتية وملاحظاته الثاقبة واللماحة للمشهد السياسي العالمي مغيرا في تفاصيل قناعاته من غير أن يتنكر لمرجعيته الماركسية.