سحرُ الجملة الأولى

ثقافة 2020/01/08
...

محمّد صابر عبيد
للجملة الأولى سحرٌ غريبٌ لا يتكرّر مهما كتبتَ بعدها من جُمل تليها لتأليف نصّك الذي تريد وتنتظر وتطمح، فالنصّ لا يصبح مشروعاً قابلاً للولادة إلا بعد تحوّلِ تجربةِ الحياة الخاصة والعامة إلى تجربة أدبية في عقل الكاتب الإبداعيّ، ومن ثمّ تتحوّل التجربة الأدبية في مختبر العقل التخييليّ إلى مادة لغوية متحفّزة للانقضاض على بياض الورقة كي تزهر عليها بوصفها كلاماً أدبياً آخر
 وحتى حين تتحوّل التجربة إلى لغة فإنّ اللغة لها قوانينها الخاصة في الحركة والفعل والإنتاج والخلق بحيث لا تكون مُلزَمةً بأيّة أصولٍ تحقّق الوفاء الكامل للتجربة في مصادرها ومرجعياتها الأولى، وعلى هذا فإنّ نُظُم الصوغ اللغوي المتعلّقة بشعريّة النص الأدبيّ تشتغل بقواعدها النوعية الخاصّة ابتداءً من الجملة الأولى وما يلحقها بعد ذلك من سلاسل جُمليّة تؤلّف الكيان الكليّ للنصّ، بما يجعل من الجملة الأولى جملة مفتاحيّة تخصّ قوانين الإبداع اللغويّ لا أعراف التجربة المقبلة من أرض الواقع بحمولاتها
السوسيوثقافية.
فما أن تضع الجملةُ الأولى قدميها على سطح الورقة بثقة وخيلاء وكبرياء حتى يصبح بعد ذلك كلّ شيء ممكناً وسهلاً وقابلاً للحصول، إنّها كما قال باسترناك –على ما نظنّ- هبة من السماء، هي المفتاح الذي يفتح أهم مغاليق النصّ ويضع الكاتب على السكّة الصحيحة النظيفة الموصِلة إلى المقاصد القريبة والأهداف البعيدة معاً، إذ بوسعه أن يبدأ البداية المناسبة المطلوبة لبلوغ مرحلة تشكيل العمارة النصية الفارهة برشاقة ويسر وسهولة وأناقة وفنّ، ومِن غيرها يظلّ يدور الكاتب حائراً متأرجحاً في دائرة مغلقة أو فلكٍ ضيّقٍ لا يقود إلى شيء واضحٍ البتةَ، لذا عليه أن يحسب لهذه الجملة ألف حساب ويجتهد طويلاً في بناء أواصر ثقةٍ وتقاربٍ وطمأنينةٍ وتفاهمٍ بينه وبينها ليعرف مسالكها ودروبها ومفاتيحها الرئيسة، بما يجعله قادراً وقت اللزوم على استدعائها وتحريضها وتشجيعها وإغرائها كي تُشرِق في سماء نصّه ومن ثمّ تبدأ بعدها رحلة الإبداع بلا منغصات ولا تلكّؤات
ولا نواقص.
الجملة الأولى لها لون وطعم ورائحة وإيقاع وبريق ونور وشكل وصورة وحضور وتأثير لافت يبعث على الفرح والبهجة والأمل والجمال بتباشير النصّ المقبل، وربما الإيقاع -على وجه الخصوص- هو العلامة الأولى الأكثر هيمنة وحضوراً وتأثيراً التي تُشعِر الكاتبَ أنّ هذه الجملة المُنتظَرة في طريقها إليه فيطمئن ويهدأ ويشعر بالامتلاء، ومن دون أن تحضر انبثاقات هذا الإيقاع وملامحه وإشاراته ويُعبَأ رأسُ الكاتب به لا أمل في ولادة الجملة الأولى على النحو المطلوب، فهي لا بدّ أن تكون حاضرة وراهنة وأكيدة في هذا المسار كي يكون كلّ ما بعدها حصيلة لهذا المنجز وثمرته وعنوانه ومصيره، ويعمل كلّ شيء داخل النصّ في نسقه الصحيح ومجاله الحيويّ الإبداعيّ المناسب لوضعه
 ومقامه وآليّته.
أشار كثير من المبدعين الكبار إلى خطورة الجملة الأولى أو السطر الأول أو العبارة الأولى التي يصطلح عليها نقّاد العتبات «الاستهلال»، وكان النقاد العرب القدامى في تصنيفهم لأجزاء القصيدة يسمّونها «المطلع»، بكلّ ما ينطوي عليه مصطلح الاستهلال الحديث والمطلع القديم من فضاء دلاليّ واسع يعطي للجملة الأولى القيمة المطلوبة من هذا السحر، إذ عبّر كثير من هؤلاء الكتّاب الكبار عمّا تفعله هذه الجملة من تأثير لا يخفت في كلّ ما يعقبها من تنامٍ وتواصلٍ جُمليّ يسهم في تشكيل البنيان العام لنصوصهم، إذ لا مناص منها حيث تكون بهذه الأهمية والتأثير والخطورة لأجل المضي قُدُماً نحو بناءٍ فنيّ تشكيليّ للنص المرتقب، فحين تكون الجملة الأولى على هذا القدر من السويّة الفنية العالية فإنّ الأمور ستسير في مسارها النوعيّ الأصيل والمبتكر، وبغير ذلك يستحيل أن يولد النصّ المنشود، وإذا أُرغِم على ذلك سيكون وليداً مشوّهاً وقبيحاً وغير قابل للحياة كما يجب، لذا فقد أصبحت هذه القضية الشاغل الأهمّ للمبدعين كي يعثروا على المفتاح الذي بوسعه فتح الطريق أمام ولادات نصوصهم.
تُرى هل من وسيلة ناجعة لاستقدام هذه الجملة المُنتظَرة واستدعائها برفقٍ إلى مائدة الورقة كي يضمن الكاتبُ المضيَ في سبيل إنجاز نصّه على الشكل الإبداعيّ اللائق؟ أم أنّ القضية تعتمد على إلهامٍ ما يفرض على الكاتب أن يبقى في دائرة الانتظار والتجلّي لتحطّ الجملة الأولى على سطح ورقته بهدوء وبلا عوائق؟ وهل من احتمالاتٍ ما يمكن أن تتعسّر فيها هذه الولادة وتحتاج من الكاتب تدخلاً حاسماً جريئاً على نحو معيّن؟ وأسئلة أخرى تحتشد وتتزاحم في ظلّ هذا الحيّز الطريّ من أحياز الكتابة بأسرارها التي لا تُعدّ ولا تُحصى، وتبقى مفتوحة على شبكة لا متناهية من مخاضات أجوبة غير نهائية لكنها قابلة للأخذ والردّ والسجال والحجاج والتنوّع بلا حدود.
ينبغي على الكاتب المبدع أن لا يستعجل استقدام الجملة الأولى بحكم إدراكه لأهميتها وخطورتها على مستقبل نصّه ويسعى إلى التقاطها قبل موعد حلولها الطبيعي الذي لا بدّ قادمٌ، بل يتحلّى بأكبر قدر من الصبر وشجاعة الانتظار حتى تأتي في وقتها المناسب وإنْ طال، فهي قطعاً لا تأتي قسراً وعنفاً وقهراً، وثمّة وقت لتبلورها وتكاثفها وتخصيبها وولادتها بما يجعلها قادرة على قيادة دفّة السفينة النصيّة نحو شاطئ الجمال والإبداع، إنها أشبه ما تكون بالماركة المسجّلة التي تمنح النص فرادته وتميّزه فلا يشبهه بعد ذلك نصّ آخر له أو لغيره، بما يحمله من جينات إبداعية ليس لها بديل أو شبيه تعزّز الطاقة الابتكارية التي لن تتكرر في مستقبل النصّ، لكنّها بمجرّد أن تأتي وتَمثُل في حضرة إبداعيةِ النصِّ ما تلبث الأشياء الأخرى كلّها أن تستوي وتأخذ مكانها الدقيق في خارطة النصّ، ومن ثمّ تترى الجمل اللاحقة لها ضمن قافلة الإبداع لأنّ الدروب معبّدة والنور ساطع والأرض خضراء والعزيمة قويّة بلا موانع ولا عوائق ولا خسارات.