الديموقراطية والدين

ثقافة 2020/02/01
...

د. محمَّدحسين الرفاعي
 
يقوم الفكر الإسلامي في المجتمعات العربيَّة على افتراضات وتصوُّرات وأفكار، تسبق كل ضرب من ضروب بناء الفكر، عند مستوى التَّساؤل، والتفكير، والفهم، من جهة، وعند مستوى الممارسة في الواقع المجتمعيّ المحسوس، من جهة أخرى. يفترض الفكر الإسلامي بعامَّةٍ أنَّ المجتمعات العربيَّة مجتمعاتٌ إسلاميَّة، أو هي ينبغي أن تكون كذلك. كما يفترض أن الفكر في المجتمعات العربيَّة إنَّما هو فكر إسلامي، أو لا يكون. كيف يأتي ذلك إلى مستوى الفكر، والواقع؟ 
[II]
إنَّه يتجسد في الفكر اِنطلاقاً من مقولَتَيْ "إسلامية المعرفة"، و"الإسلام هو الحل". كما يأتي إلى مستوى الواقع، في كُليَّتِهِ، بواسطة التصوُّرات والأفكار المتعلقة بـ"الدولة الإلهية". وفي ذلك جملة معايير تحديد، وقياس، هي، على أقل تقدير، الثلاثة الآتية: 1- السلطة العليا لله، وكل ما يتجسد عن ذلك، يجب أنْ يقوم على النص المقدَّس. 2- لا ثَمَّةَ تغيير في السلطة إلاَّ اِنطلاقاً من التغيير الذي يُحدثه الله داخل المجتمع. 3- الدولة الإسلامية، أي التي تقوم في كل مُكَوِّن من مكوِّنات بِنْيَتِها، على النص المقدَّس، والسيرة النبوية، هي الدولة الحقة. 
[III]
وفي المقابل لدينا جملة تصوُّرات واِفتراضات وأفكار أساسيَّة، تُؤخَذُ كمبادئ تتعلَّق بالديموقراطية، وقيامها. هي، على أقل تقدير، الآتية: 1- اِنتقال قوة الفعل المجتمعيّ بعامَّةٍ، والسياسي بخاصَّةٍ، التي للأفراد، بواسطة صناديق الاِقتراع، إلى قوة الفعل التي للمجموعات  السياسية. ينتج عن ذلك وحدة المجتمع بواسطة تعدُّد الفاعلين السياسيِّين، أي النواب عن الشعب، التي يقبلها المجتمع في كُليَّتِهِ. 2- اِنفتاح السِستام، في البِنى المجتمعيَّة الأساسيَّة، على التغيير. و[التعدُّد- في- الفهم] الذي يؤسس للتعدد في الإختيار بين من يستطيع إدارة هذا السِستام والحفاظ عليه، أو تغييره. 3- تجاوز الاِنقسام العمودي في بِنيَة السلطة. إذ إنَّ الأساس في الديموقراطية لهو عدم فرض خيارات جاهزة ثُنائيَّة، أو ثُلاثيَّة، على الناخبين. سواءً كانت هذي الخيارات تأتي من أجهزة أوليغارشية، أو من العسكر، أو من الفرض الخارجي. 4- الاِنتقال من التقسيم الهرمي للمجتمع، إلى فكرة المساواة. 
[IV] 
ينكشف من ذلك، لا فقط عدم وجود رابط، واِرتباط بين الدِّين والديموقراطية، بل يبرز، على السطح، التناقضُ الأصليُّ، في الواقع المجتمعيّ، بين التصوُّرات الأساسيَّة التي من شأن الدِّين، وبين أسس قيام الديموقراطية. فما هي مُكَوِّنات هذا التناقض؟ 1- من جهة ضرورة وجود مصدر للشرعية، والمشروعية، يأتي من الواقع، والذوات الفاعلة، ومن جهة ضرورة أن يكون مصدرهما من النص المقدس. 2- من جهة لا ثَمَّةَ تغير، ومن جهةٍ أخرى ضرورة التغير الدائم. 3- من جهة ضرورة الإختلاف الوجودي- المجتمعيّ بين أفراد المجتمع، ومن جهةٍ أخرى ضرورة المساواة. 4- من جهة ضرورة الحُرِّيَّة في المشاركة السياسية، ومن جهةٍ أخرى ضرورة تحديد المشاركة السياسية من قِبَلِ المؤسسة المجتمعيَّة. 
[V]
 فماذا نفعل، والحال هذي؟ إنَّه علينا أن نعيد التوفيق بينهما، لضرورة يواجهنا بها الواقع. وإنَّ ذلك لهو جليٌّ في كثافة المعنى التي من شأن الدِّين في تحديد الأفعال المجتمعيَّة. وعلى ذلك، من أجل ألّا نبقى قابعين في هذا التناقض، أو ضروب تحديده، ضمن بِنيَة السياسة، والفعل السياسي، بخاصَّةٍ، وضمن البِنى المجتمعيَّة، والفعل المجتمعيّ، بعامَّةٍ، نطرح التَّساؤل الأساسي الآتي: ما هو إمكان، وكيف يمكن، بناء الطريق إلى إعادة تركيب الديموقراطية على نحو بحيث نعيد تركيب الوطن من جهة، ومن جهةٍ أخرى، نحافظ على كثافة المعنى التي للدين في تحديد أنماط الفعل المجتمعيّ، واِتجاهاته؟ إنَّه من أجل إعادة تركيب الوطن الذي يتطاير شظايا، بفعل الاِنقسامات العمودية الحادة، نلجأ مباشرةً إلى بناء، وإعادة بناء الفهمِ بالرابط الأصليّ بين الديموقراطية، والدين، بالاِنطلاق من المحطات الآتية: 1- إعادة بناء التوفيق بين وسائل [العالَميَّة]، أي الوجود في العالم، وبين ضرب من ضروب فهم الدِّين ينقله إلى مستوى الأفراد، لا الجماعات، ولا المجتمعيَّات. 2- الاِنتقال في تحديد المشاركة السياسية، في أوسع معنىً لها، من ضروب تحديد الدِّين للفاعل السياسي، إلى ضروب تحديد الفعل السياسي للفاعل. 3- تخليص الدِّين من اِحتكاره بواسطة رجال السلطة الدينية. وفتحه على مستويات الهرمنيوطيقا العالَميَّة، وإعادة تأويله على نحو بحيث يتناسب مع ضروب الأفعال السياسية التي يُحدِّدُها الواقع المجتمعيُّ
 المحسوس.