ميثاق صداقة القراءة

ثقافة 2020/03/02
...

سعيد الغانمي
 
لا تكتمل عمليَّة الكتابة إلا حين تتحوَّل إلى عملٍ منشورٍ يقرأه الناس، ويتجاوبون معه، أي لا تكتمل الكتابة إلا بالقراءة. ففي القراءة وحدها تكتسب الكتابة معناها، وتتلقى دلالتها، وتخرج من أسر منتجها لتلتقي بأفق قارئها، الذي قد يُعطيها أحياناً معنى ودلالة ربَّما لم يفكر بهما المؤلف نفسه. قد يكتب مؤلف ما عملا، لكن هذا العمل يظل مجهولا لا يكتمل معناها إلا بوصوله إلى قارئه.
 لنتخيَّلْ أنَّ بحّاراً تتقاذفه الأمواج يضع آخر كلماته الحيَّة وخلاصة تجربته في الصِّراع مع الأمواج على ورقةٍ يضعُها في قنِّينةٍ، يرميها في عرض البحر، ثمَّ يغرق. وتظلُّ القنِّينة تتقاذفها الأمواج في البحار، فلا يعثر عليها قارئ إلّا بعد فترة طويلة من اختفاء كاتبها في خضمِّ البحر.
ليس هذا المثل بالأمر المتخيَّل وحسب. خذوا مثلاً «ملحمة جلجامش»، هذا العمل التَّأسيسيَّ الفذَّ، الذي يشكِّل مفصلاً مهمّاً في تاريخ وعي الإنسان لذاته بابتكار فنِّ الملحمة. كانت بدايته الأولى تتمثَّلُ في عدد من الحكايات السومريَّة التي تتغنَّى ببطولات جلجامش، وهي حكايات منفصلة عن بعضها. صحيح أنَّ بطلها واحد، ولكن لا ينتظمها فعلٌ سرديٌّ واحد. في الأدب البابليِّ وحده تحوَّلت هذه الحكايات المنفصلة إلى حكاية طويلة واحدة، لها بطل واحد، وينتظمها زمن سرديٌّ مطلق هو الزَّمن التَّأسيسيُّ، وتبشِّر بحقبة زمنيَّة واحدة. حين نُشرت النُّسخة الأولى من «ملحمة جلجامش» في العصر الحديث، كانت مجموعة مرقَّعة من النُّصوص التي تنتمي إلى حقب مختلفة؛ من العهدين البابليِّ القديم والحديث، والعهد الآشوريِّ، وربَّما من التَّرجمات الحيثيَّة والحوريَّة. وبمرور الزَّمن، صار الباحثون يميِّزون بين نسخٍ متعدِّدة منها؛ النسخة المعياريَّة البابليَّة القديمة، والنُّسخة المعياريَّة الآشوريَّة، وهكذا. وقد ظلَّ الناس يتصوَّرون أنَّ الملحمة اختفت من الوجود بانطفاء الحقبة الكلدانيَّة الأخيرة. ولكن اتَّضح في ما بعد أنَّها واصلت الحضور طوال العهدين الإخمينيِّ والفرثيِّ وصولاً إلى العهد الساسانيِّ، إذ عُثر على بعض الشَّذرات المانويَّة وكسر من مخطوطات قمران في البحر الميِّت تحمل آثاراً واضحة منها. ما الذي أحيا ملحمة جلجامش وأخرجها من ظلمات النِّسيان؟ إنَّها فاعليَّة القراءة.
في القراءة إذاً إحياء متبادل، يكتسب العمل المقروء معناه، وربَّما حياته، وفي المقابل، يُعطي للقارئ فرصة اكتشاف هذا المعنى في نفسه. فالقراءة أشبه بميثاقٍ مسكوت عنه بين القارئ والمقروء، يجرِّب القارئ فاعليَّتَهُ على نصٍّ لا ينتمي له، يُعطيه معناه، ويستخرج منه دلالته. وبهذا الفعل فهو يكتشف أنَّه قادر على إضفاء المعنى على النَّصِّ، ويكتشف أنَّ النَّصَّ ساكت لا يتكلَّمُ إلّا إذا وهبه القرّاء فماً يقرؤونه به. وأفضِّل أن أُسمِّيَ هذه الفاعليَّة باسم صداقة القراءة. فمن خلال صداقة القراءة، ينتفع القارئ والمقروء. وخلسةً ينسحب المؤلِّف، ليترك للقراءة بوصفها فاعليَّة مشتركة يتبادلها طرفانِ هما المقروء والقارئ، ليضعا النُّصوص في آفاق دلاليَّة ربَّما لم تخطر ببال مؤلِّفيها. بالطَّبع لا بدَّ للنَّصِّ المقروء أن يستفزَّ فضول القارئ. وهناك طرقٌ كثيرةٌ لإثارة الفضول. تلجأ بعض النُّصوص إلى الشَّتيمة، أو إلى الاستثارة الحسيَّة وما أشبه. لكنَّ هذه الطُّرق ليست هي المقصودة بالطَّبع، لأنَّ الإثارة المقصودة إبداعيَّة داخليَّة، تفتح للقارئ أفقاً جديداً للفهم. وبالتالي ينبغي أن ينطويَ النَّصُّ نفسه على مستويات متراتبة من الإبداع الأدبيِّ. وكلَّما تعدَّدت مستويات المعاني في النَّصِّ تعدَّدت مستويات قراءته لدى القارئ، وأفلح النَّصُّ في التالي باستثارة فضوله. 
والمرحلة الوسطى التي تشكِّل الخلفيَّة الثَّقافيَّة لكلٍّ من القارئ والمقروء هي الأعراف والتَّقاليد السائدة في القراءة لدى الوسط المثقَّف. تنكمش بعض التَّقاليد على نفسها، فلا تسمح إلّا بالقراءات المحافظة. وتنفتح تقاليد أخرى على القراءات الاستفزازيَّة. ولكن من المرجَّح أنَّ نجاح النَّصِّ يكمن في إمكان قراءته للتَّقاليد السائدة، ومعرفته بمدى تأثيره من دون إحداث استفزاز يتخطَّى السَّقف المسموح به، أو في الأقلِّ من دون أن يغامر باقتلاع هذه التَّقاليد ونسفها. وهكذا يبدو أنَّ القراءة التي كنّا نتصوَّر أنَّها مجرَّد عمليَّة سلبيَّة، ينجح فيها النَّصُّ المقروء في إثارة القارئ، وينجح القارئ بدوره في الاستسلام لسلطة المؤلِّف، تنكشف في التَّحليل الأخير عن عمليَّة معقَّدة تدخل فيها ثلاثة أطراف، وليس مجرَّد اثنين، في ميثاق صداقة وتفاعل. وهذه الأطراف الثَّلاثة هي: القارئ والمقروء وأعراف القراءة وتقاليدها. ولا ينجح النَّصُّ المقروء أبداً، مهما بلغت درجة إبداعيَّتِهِ، ما لم يكن يتناوله قارئ ذكيٌّ قادر على الغوص في مستوياته، كالباحث عن الدُّرر، كما يقول الجرجانيُّ. وكذلك لا يحسن القارئ تلبية نداء النَّصِّ، ما لم ينخرط في تقاليد قراءة تسمح له باستخراج الخبيء تحت سطح النَّصِّ.
على هذه الصَّفحة سنلتقي من هنا فصاعداً لنمارس ميثاق صداقة القراءة. ولن أخجل من تكرار القول إنَّ فاعليَّة هذه القراءة تتطلَّب نوعاً من تبادل التَّضحية والمنفعة معاً من القارئ والمقروء، لأنَّ هذه القراءة لا تتحقَّقُ إلّا مع قارئ ذكيٍّ قادر على ترميم فجوات النُّصوص، وبثِّ الحياة فيما يجأر بالشَّكوى منها. 
وإنِّي لأشعر بالامتنان للأصدقاء في جريدة «الصَّباح»، لأنَّهم أتاحوا لي هذه الفرصة للالتقاء بأصدقائنا من القرّاء المبدعين.