تشكّلُ الجماليّات

ثقافة 2020/04/01
...

محمد صابر عبيد
 
تقوم عمليّة تشكل الجماليّات على باعث جماليّ واضح ومفهوم وفصيح من جهة، وعلى متلقٍ يمتلك حساسيّة خاصة قادرة على استيعاب منتجات هذا الباعث وتمثلها والتفاعل معها على النحو المطلوب من جهة أخرى، وهذه المسافة الساخنة بين الباعث والمتلقي هي" المسافة الجماليّة" التي تحدد قيمة البواعث الجماليّة من حيث الأصول والطبيعة والرؤية.

وقدرة فضاء التلقّي على توظيفها والإفادة من معطياتها وتشغيلها في حقل العمل في آن، ولا شكّ في أنّ ذلك يمكن أن يتمّ على وفق درجات مختلفة ومتباينة بحسب طبيعة التلقّي ومنهجه وذكائه وخبرته وآليّات عمله، ممّا يعني أنّ القيمة الجماليّة لكلّ باعث جماليّ ترسو على مستوى معيّن ودرجة معيّنة، استناداً إلى قدرة المتلقّي على الفهم والتمثّل والاستيعاب، بما يجعل فلسفة تشكّل الجماليّات قائمة على القدرة والقابلية والرغبة في ملء المسافة الجماليّة بين الطرفين بما أمكن من الخصب والثراء والمعنى 
والإدهاش.
يعكس مفهوم" الحساسيّة" على هذا النحو فاعليّة الأداة العاملة في حقل التشكّل الجماليّ، وقد تكون صورة" الأداة" فيها هي الوسيلة الإجرائيّة الوحيدة القادرة على تلقّي الرؤيّة الجماليّة القادمة من منطقة الباعث برغبةٍ وقدرةٍ كاملتين، ومن ثّم العمل على فهمها وتمثّل معطياتها وظروفها في السبيل إلى تحقّق مفهوم" التشكّل" على النحو المطلوب، ومن دون وجود هذا الوسيط" الحساسيّة" يصعب إحداث هذه العلاقة التفاعليّة بين الطرفين، لأنّ أيّ وسيلة أخرى مهما كانت قريبة وفاعلة ليس بوسعها إتقان لعبة التوصيل الجماليّ مثلما تفعل الحساسيّة، فقد تنجح الوسائل الأخرى في توصيل مظهر معيّن من مظاهر القيمة الجماليّة للموضوع الجماليّ، لكنّها تخفق في مهمّة التوصيل الكامل المطلوب حتّى تتمّ عمليّة التعيين الجماليّ والحُكم الجماليّ على النحو 
المناسب.
تصنع هذه الحساسيّة شعوراً غامضاً ومعقّداً بالأشياء يعتمد نشاطها على ظروف تلقّي الموضوع الجماليّ القائمة على الانطباع أولاً ثم الانفعال، إذ تتحرّك فعاليّة التشكّل الجماليّ في سياق مجموعة من المراحل، لكلّ مرحلة صورةٌ وعنوانٌ وسياقٌ لا بدّ من استنفاد طاقاتها كاملة كي يتمّ الانتقال إلى مرحلة جديدة بصورة أخرى وعنوان آخر، وبما أنّ الحساسيّة بوصفها أداة تلقٍّ جماليّة مركزيّة ذات طبيعة فرديّة فإنّ هذه الفرديّة يجب أن تتميّز بفرادة الشخص وفرادة الشعور وفرادة الوسيلة، على النحو الذي يضمن خصوصيّتها وتعبيرها عن مزاج نابع من خبرة وتجربة وذخيرة حيويّة خصبة، تصل بعمليّة تلقّي الموضوع الجماليّ إلى أعلى درجات الرقيّ والفهم والتجلّي والوضوح والتكامل والصيرورة.
تنفتح الحساسيّة على مسارين اثنين متعاضدين ومتوافقين هما" العرض والوظيفة"، فهي لا تعمل إلا على عرض جماليّ ظاهر وباهر وقابل للتعاطي معه والإقبال عليه والتفاعل معه، ومن ثمّ تسخير وظيفة الكشف عن عناصر التشكيل الجماليّ المكوِّنة للصورة الجماليّة المعروضة وتحليل آفاقها ومعطياتها، ولا بدّ من التوكيد في هذا السياق على ما ينطوي عليه العرض الجماليّ من هالات الغرابة والسحر، بوصفها الفضاء الذي يساعد الحساسيّة على النجاح في اكتشاف الأسس الجماليّة وطرائق عملها في 
الميدان.
يشكّل عنصر الإغواء أحد أبرز الفواعل الجماليّة التي تؤلّف العلاقة بين العرض الجماليّ والتلقّي، فمن غير حضور طاقة الإغواء تبقى عمليّة التلقّي تقليديّة لا تتوفّر على رغبة الاجتراح والاختراق والارتجال النوعيّ والإبداع، لأنّ التلقّي الخاصّ بالعرض الجماليّ ينبغي أن يحظى بقابليّة الابتكار القائمة على حضور شبكة من الحوافز الوجدانيّة الحساسّة، التي
لا تتوقّف عند مجرّد تلقّي المعنى وتفسير ما يحمله الموضوع من مقولات وأطروحات، بل تمتدّ نحو طبقات أخرى لا يمكن بلوغها بلا أداة إضافية هي" الحساسيّة"، وذلك للوصول إلى ما لا يمكن الوصول إليه بوساطة الأدوات
الطبيعية المعروفة في عمليّة التلقّي.
تبدأ قراءة العرض الجماليّ بوساطة أداة الحساسيّة بمتعة صغيرة تحرّض على مواصلة التلقّي وتطوير إمكاناته، ومن ثمّ تحاول توسيع هذه المتعة وتطوير مساحاتها لأجل تعميق أواصر التواصل القرائيّ، حتى تنتهي إلى مرحلة الإثارة والغبطة التي بوسعها أن تمتدّ وتتسع وتتكاثر كي تتحوّل إلى حالة متكاملة، ومن ثمّ تنتقل من هذه المرحلة البالغة الأهميّة إلى مرحلة أكبر وهي مرحلة الوجد التي قد تبدو وكأنّها النتيجة المرجوة من ذلك، وهي بلا أدنى شكّ على صعيد التلقّي الجماليّ تعدّ حالة صوفيّة شديدة الخصوصيّة لا تحصل بسهولة، إذ بما أنّ هدفها الأساس هو تحقيق السعادة الإنسانيّة القائمة على أعلى درجات التوافق المطلق بين الذات والموضوع، فإنّ الرغبة في إيصال هذا التوافق إلى درجة التماهي هو من أولويات الحساسيّة ومن أبرز مقاصدها وأهدافها.
لا تكتفي السعادة الإنسانيّة في تكوين شكلها بحضور صورة الترف وصورة اللذّة وصورة الإعجاب، فكلّها حالات عابرة قد تختفي حين تستنفد هذه الصور طرافتها وجدّتها وقوّة تأثيرها في النفس الإنسانيّة المتلقّيّة، وعلى فعل التعجّب هنا خصوصاً أن يكون سلوكاً حيوياً يستمرّ ويؤثّر ويغيّر بما يجعل شكل السعادة لا يستقرّ على لون واحد ورؤية واحدة، وأن يكون الحسّ الجماليّ مركباً بين الروح والجسد للحصول على صورة التكامل المطلوبة لتحقّق السعادة، فعلاقة الحسّ الجماليّ الوجدانيّ والعاطفيّ والانفعاليّ بالحسّ الإيروسيّ الجسديّ له الأثر البالغ في إدامة حضور الصور أداءً وتطوّراً.
لا بدّ من الانتباه على قضية تقلّب الحساسيات الجمالية وتطورها بين حين وآخر، وهو ما يجب التحسّب له وعدم الاطمئنان على وضع معيّن واحد مستقرّ لها في إطار حالة معيّنة مهما كانت مفيدة ورائعة وجاذبة، لأنّ التطوّر الخاصّ بالتصاميم للبحث عن وسائل جذب تتعلّق بالإدهاش في حساسية تجميل النماذج لا تهدأ ولا تقف عن حدّ، فهي دائمة الحفر في طبقات العرض الجماليّ لاكتشاف تصاميم جديدة تلائم أيّ تطوّر في الحياة مهما كان صغيراً 
وجزئياً، 
ولا بدّ في السياق نفسه إلى الانتباه على ثنائيّة جماليات المركز والهامش وعدم الاكتفاء بما يحيله المركز وينتجه من جماليّات، فلا يمكن فهم جماليّات المركز من غير فهم جماليّات الهامش في الدرجة نفسها من درجات العناية والنظر والتنقيب.