شعريَّة الومضة في «الملقن»

ثقافة 2018/12/17
...

د. جاسم حسين الخالدي
 
 
أصبحت كتابة القصة عند جمهرة من الكتاب  محض موقف أو ومضة خاطفةً يجسدُها القاصُ على الورقِ بلغةٍ مكثفةٍ تقتربُ من لغةِ الشِّعر في جزءٍ كبيرٍ منها. ومن هنا صار اقتراب النقد من التجارب القصصية مرهونًا بتلك القدرة على الامساك بالومضة الخاطفة، وتعطيل زمنها وتوجيه الانتباه إلى الموقف الذي حلَّ بديلًا عن الحدث الذي اشترطه النقد السردي في كتابة القصة" تهدف )القصة) إلى تقديم حدث وحيد غالبًا ضمن مدة زمنية ومكان محدود غالبًا، ليعبرَ عن موقفٍ أو جانبٍ من جوانب الحياة".
والواقع أنَّ الموقفَ هو عمادُ القصةِ الذي يقتنصه القاص  من مرايا الواقع الكثيرة؛ فيسقط ما لا يراه مناسبًا، لأنَّه لا يؤلف مادة صالحة لبنائها، ويقف عند ما يناسبها. 
لعل هذه المقدمة كافية لقراءة قصة منير عتيبة( الملقن) التي نستطيع القول إنَّ عنونتها كانت جزءًا من بنيتها، وكأن عتيبة قد وضعها  قبل أن ينتهي من كتابتها. وهي سمة قارة عند كثيرٍ من كتاب القصة الكبار، الذين لم يتعاملوا مع العنوان على أنَّه زينةٌ، أو زخرفةٌ يُقصد منها لفت انتباه المتلقي، أو تسويقها تجاريَّا.  
 رصد القاص فيها المآل الذي انتهى إليه "الحاج عبد الستار صاحب" وابور الطحين، وهو يتناسب مع الفعل المشين الذي صدر منه، وإن لم نكن قد اطّلعنا في متن القصة على شيء منه؛ لكن أقوال حاضري جنازته وتذمرهم من العناء الذي وجدوا أنفسهم فيه، كافٍ لأن  نشاطرهم مواقفهم. فقد  رسم  القاص صورة  ممزوجة بالسخرية والتهكم للحاج عبد الستار من جهة، وأخرى مقابلة لمحيطه الاجتماعي الذي لم يكترث بغيابه، إذ وجد جنازته مناسبة لأحاديث دنيوية لا علاقة لها بالحزن عليه. ومن بين صور السخرية  المليئة بالسوداوية مثل قوله: "لكن الحديث الهامس بين المعزِّين لا يتوقف؛ البعض يتحدث عن تجارته، أو خلافه مع جاره في تحديد نوبة ري الأرض، أو شجاره مع زوجته، لكن أغلب الحديث عن المرحوم الذي لم يكتف بما كان يفعله فيهم في الدنيا من شرور، فمات في يوم من أيام الجحيم ليعذبهم بجنازته". 
أو قوله ساخرًا  " كان المرحوم سمينًا جدًّا كبقرة (عُشَرَاء) في عجلين، يهمس أحدهم لصاحبه بصوت يتقطع لهاثًا: لكن ربما كانت ذنوبه أثقل منه ومن الخشبة معًا". 
وقوله أيضًا مجسِّدًا لحظة دفن الحاج عبد الستار، راسمًا ذلك المشهد باتقان كبير : "ويبدَؤُون بإدخال الجثة، لكن صرخة قادمة بقوة من خلف الواقفين تجعلهم يتوقفون عن إدخال باقي الجثة، فأصبحت تائهة نصفها في الداخل، ونصفها في الخارج، فيما بعد قالوا: إن المرحوم تمنى لو يظل الوضع هكذا إلى الأبد حتى تتسنى له فرصة الهرب وقت اشتداد الحساب".  أو قول أحدهم ساخرًا من الشيخ صبحي: "عقدت الدهشة لسان جابر فلم يستطع أن يتكلم، كيف أجاب أبوه الذي لم يره يقرأ يومًا آية من القرآن أو يدخل المسجد إلا في حالات الوفاة؟! سأل أحد الحاضرين ساخرًا: وكيف عرفت يا شيخ صبحي؟! هل لك أقارب في الكنترول؟"    ولم تخلُ خاتمة القصة من تلك السخرية التي هيمنت عليها، وألفت جزءًا مهمًّا من بنيتها، واستكملت الصورة السلبيَّة التي أراد رسمها للشخصيتين: الحاج عبد الستار، والشيخ صبحي، وكلاهما ينطلقان من مرجعية ثقافية واحدة، لكنهما عدلا عنها، واتخذاها سبيلًا لهما لنشر الرذيلة في المجتمع؛ حتى صار يوم ممات الأول جحيمًا لمن رافق جنازته، وقرنوه بيوم الجحيم، فيما صار فعل الآخر مسيئًا لعملية التلقين التي تعد طقسًا دينيًّا عند المسلمينَ كافة.  لعلَّ العبارةَ الأولى التي استهل بها عتيبةُ قصتَه، تصورُ غايتَه من كتابتِها، فهو يريدُ القول: إنَّ الفعل المشين قد يصدر من  رأسٍ  بعمامةٍ كما يصدرُ من طاقيةٍ أو كابٍ، كما أن تلك العمامة والطاقية والكاب، إن وقيت لابسيها من حرارة الجو، فإنها لن تحول دون ارتكابه الموبقات، يقول عتيبة: "محظوظ من يضع شيئًا على رأسه؛ عمامة أو طاقية أو كابًا، يحميه من تلك الشمس الجهنمية التي تبدو مستمتعة بتسخين أدمغتنا، ولسع أقفيتنا التي بدت معظمها كفم فرن الخبيز". وهي إشارة أولية للدور الذي سينهض به "الشيخ صبحي" فيما بعد، ويكاد يكون دوره لا يقلُّ قبحًا عن فعل "الحاج عبد الستار"، فكلاهما مارسا الرذيلة بطريقته الخاصة، ولكن مؤداها واحد هو إيذاء الناس وتعذيبهم، وقد صور عتيبة ذلك بالقول: "فمات في يوم من أيام الجحيم ليعذبهم بجنازته". فيما صار فعل "الشيخ صبحي" مصدر السخرية للآخر بما انطوى فعله من كذب وتزيف، على الرغم من جنيه أموالا طائلة منه، كما لا يخفى أن الإدانة التي وجهها عتيبة لا تقف عند الحاج عبد الستار الذي اشبع الناس شرورًا، ولا الشيخ صبحي الذي حاول استغفالهم، فقد أدان العقول الصاغرة التي مشت بجنازة الأول، وهو ظالمها، وأذعنت لخزعبلات الآخر، وهي تعرف كذبه وزيفه..                                                     
كما أنَّ السطورَ التي تلت تلك العبارة الاستهلالية كشفت عن الصورة السلبيَّة التي ترسَّخت في عقول الناس للحاج عبد الستار في حياته والصورة الجديدة التي حاول الراوي العليم أن يرسّخها فيهم. فقد سخَّرَ بعضَ أفعال الطبيعة من حرٍّ لا يُحتملُ قد تسبب في إعيائِهم، والرائحة التي تنبعث من الجنازة التي تزكم الأنوف؛ ليصور قبح الافعال التي قام بها،  مما زادت من ثقل جنازته، فوق الثقل الحقيقي لجسده.                                                              
وبعد فإن قصة "الملقن" قد افصحت عن أسلوبية كاتبها في كتابة القصة القصيرة، بدءًا من عنوانها الذي ألَّفَ جزءًا مهمًّا من بنائها، والمواقف الساخرة التي جمع بين الجد والهزل، واللغة المائزة التي لا فضلة فيها، فكلُّ كلمةٍ جاءت في سياقها، وهو ما قربها من لغةِ القصيدة في بعضٍ من خصائصِها الأسلوبيَّة.