صباح محسن كاظم
لعلّ أعظم الأعمال بشهر رمضان هو التكافل الاجتماعي الذي أكده نبي الإنسانية محمد (ص) بالحث على الصدقات والزكاة والتآزر في ظل الأزمات.
كما مرت بالنبي (ص) المحن خلال حصار المشركين له ولبني هاشم في شعاب مكة وكذلك بالمؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين في المدينة المنورة في كل مراحل الدعوة السرية والعلنية على امتداد 23 عاماً.
ثمة صفات وكمالات واستعدادات ذاتية فوق الطبيعية يتحلى بها نبينا (ص)، ولأجل دراسة أعظم شخصية كونية من بدء الخليقة إلى نهاية الوجود البشري تتجلى البصيرة، والوجدان، والفطرة، والدقة العلمية، والموضوعية، والحيادية.
وعند التنقيب في حياة الرسول (ص) لا بد من البحث وفق اشتراطات دراسة البيئة القاسية، واليتم، وعدم وجود المؤهلات العلمية في البيئة الجاهلية، التي تغذت وتربت على النهب والثأر ووأد البنات والسلوكيات المنحرفة عن الفطرة السليمة، مع كثير من العوامل التي تقيد العقل للإنطلاق بعبادة الرب الواحد، لذلك كانت الحاجة كبيرة لرجل مختلف بصبره ليحمل عبء آخر الرسالات السماوية التي تحتاج إلى معصوم ليبشر بها البشرية، وينقذ البيئة الصنمية، والشركية التي تؤله الحجر والتمر، إذ كان هناك أكثر من ٣٥٠ صنما يتخذها الناس آلهة وأربابا من دون الله.
ومن هنا كانت عظمة نبينا (ص) الذي غير وجه التاريخ من ظلمة الشرك الى نور اليقين والإيمان والتوحيد ليكمل دعوات الرسل والأنبياء.. من آدم الى الخاتم.
وكما يعبر الفلاسفة عن قضيتين جوهريتين في مسارات الرسل، هما: التوحيد،
والإصلاح.
وقد غير نبينا (ص) وفق تلك المثل والقيم العقلية الصحراوية التي من الصعب تطويعها.
أسوق مقدمتي تلك لتناول مداخل من كتاب المفكر المغيّب (عزيز السيد جاسم) المعروف والمهم (محمد الحقيقة العظمى) الذي صدر بحجم ٤٩١ صفحة والمطبوع في دار الشؤون الثقافية سنة ١٩٨٧.. وهي دراسة تحليلية وفكرية ومعرفية، ليست إنطباعية أو سطحية؛ كما دأب على ذلك معظم الكتاب السابقين في عصر المفكر.
بل إن أطروحته رغم مرور أكثر من ٤٠ عاما ما زالت تعد من أهم الكتب العصرية التي لم تتجاوزها الأقلام.
أعتقد أن سر نجاح أي كتاب هو ثلاثي الصدق والموضوعية وعدم التدليس.
وقد أجد العشرات ممن يكتبون عن الشخصيات وتمتلئ كتاباتهم بالدس والافتراء وتمجيد القاتل أو من كانت سيرته مؤذية للمجتمع والعقيدة.
والواقع أن تلك الكتب لا تتجاوز مصداقيتها نسبة عشرة بالمئة، فيما يذهب المؤرخ الواقعي للتحليل، والرصد، ويتابع بلا مبالغة، أو تفريط، ويتوخى الصدق، والشهادة التاريخية الواقعية.
وهذا ما لمسته وانا أطالع كتابيه «علي سلطة الحق» و»محمد الحقيقة العظمى».. فقد أكد المفكر المغيّب في مقدمته للكتاب الثاني؛ ص ٤: (كانت الكتابات عنه -النبي، الرسول، القائد العظيم- محدودة، ضئيلة، مجموعة معلومات، ومجموعة أقوال (أحاديث)، في حين كان يولى اهتمام بحياة الشعراء أكثر منه،... محمد ملك المسلمين والبشرية النظيفة، وليس ملك كهنة، وأوصياء، وأصحاب وكالات منحوها لأنفسهم،.. شخصية محمد قارة كبرى، بل قارات، لا يمكن الإحاطة بها، إنما يمكن - فقط-(وهذا حق) التوصل إلى استقصاء جانب معين من حياته العائلة).
وفي ص١٨ من المقدمة يحلل المفكر الواقع الاجتماعي والسايكولوجي للمجتمع وكيفية التعاطي معه وفق منهج الرحمة والعطف الإلهي الذي حمله قلب نبينا حيث يؤكد: (في مقاومة النبي لواقع جاهلي، صحراوي، همجي، تجاري، قاس، شديد القسوة، من جميع الوجوه، والجوانب، والجهات، كان لا بد من القسوة والشدة.
فكان على محمد -الذي جبلت نفسه على الرحمة- أن يكون شديدا، لإجراء التغيير، وكان عليه -في الوقت ذاته- أن يحمي شجرة الرحمة، والرقة في نفسه.
وهذا أمر عجيب حقا).
لقد تعمق المفكر عزيز السيد جاسم بدراسته غير النمطية هذه عبر ابواب ومباحث وفصول بقراءة مغايرة في العنوان (من مدخل غير اعتباطي إلى مولد الحق، ومكة، وثن المال يطرد البداوة، سادن الكعبة عبد المطلب، النذر الأخير، قدر عبد الله، عام الفيل المؤامرة بالمهد، ثم الفصول الأخرى المتتابعة بتحليلية وعلمية، وبأسلوبه الأدبي الشيق الذي يطوّع المفردة وفق جماليات اللغة لتمتد الى عمق التاريخ وبلغة شفافة وروح العصر والحداثة.
فكل ما تعلق بحياة النبي (ص) وفق رؤية تحليلية علمية يتجلى بهذا الكتاب الغني بمحتواه والذي أجزم بتفرده على المستوى العربي.
لقد طالعت مئات من كتب التاريخ وكنت أرى مستوى التحليل العقلي متواضعا؛ قياسا لكتاب محمد الحقيقة العظمى.
لقد طبق مجتمعنا العراقي بكل مراحل تاريخه صدق الانتماء لرسول الله مع كل محنة طوال مسيرته التاريخية.
وبعد العام 2003 والتحديات التي مر بها من داعش والتصدي الجماعي له بالتآزر والنخوة وإتباع المرجعية.. وكذلك بأزمة الكورنا من أشهر نرى سلال المواد الغذائية توزع بين الفقراء والمتعففين إيماناً بما أوجبه القرآن والسنة النبوية بالتكافل الاجتماعي. فشهر رمضان شهر البركة والصدقات تتضاعف فيه لمانحها، ومن يقدم المساعدات لمن يحتاجها بهذا الظرف الذي وقفت فيه الحياة اليومية وأعمال الكادحين. لنتجاوز محنة الكورونا بتطبيق تعليمات الصحة وبالتآزر بالتكافل الاجتماعي.