ملاحظات في العبادة الروحيَّة

آراء 2020/06/13
...

محمد يونس
 
في البداية لابد من توضيح أن الدين الفطري يحتوي على نمطين من العبادة, وكل نمط له نظامه ووحدته الزمنية, فالعبادة الاولى هي مادية شكلا كالصلاة والصوم, وهناك عبادة روحية قد تشتملهما اذا سعى البشر الى تحقيقها, ولكن واقعيا طابعهما المادي مهيمن على مضمونهما الحيوي, واي عمل بلا مشاعر حيوية فيه سوف يفنى ويتلاشى كتلاشي المادة التي يمثلها, بينما تلك المشاعر التي هي عبادة ذاتية, ولا تدخل في الاصول والقانون الديني, وهي صراحة ما يحتاج اليه ويفقده نسبيا الذين هم ملتزمون بالعبادة المادية كواجب حتمي, ويكون اداء ذلك الواجب بحسب العرف المعمول به, والمعنى الروحي للدين الذي هو يرتبط بالمشاعر الحرة للناس, التي هي غير مقيدة الى نظام او مرتبطة بسياق, والتي يسميها بعض الفلاسفة – المعنى الانساني – والتي هي مفهوم روحي واسع وعميق, وخارج اي الية محددة, وتلك الصيغة هي التي تمنعنا من فعل مضاد لها, وتدعونا دائما الى حمل روح المسالمة, وهي المسار المعنوي الجليل الذي اتخذه جميع الانبياء, الذين ارتكزت دعواتهم المتفرقة على هذا المعنى الاصيل. هناك طرفة في اطار التزامن لنا غاية في ايرادها, فقد عمل خصما التاريخ السياسي والعسكري كل من تشرشل وهتلر في عمل مشترك, فهما كانا متزامنين في عمل، هو اقرب الى ما يسمى مراسل سلمي وليس حربيا، لقيامهما بايصال الرسائل رغم خطورة الوضع العسكري, ولكن تلك الروحية قد تبددت تدريجيا, وذلك بعد شغلهما التفكير المادي للسياسة, فقادا العالم الى ابشع حرب كونية, وفقدان الوازع الروحي قد دعم سطوتهما العسكرية, ويرى سارتر, أنه كلما اتسعت سطوة الحس العسكري قلت سطوة العقل والفكر الحر, وفعلا انحرف هتلر وخصمه الانكليزي, وساد الدمار ومات الملايين من البشر, ولم تخرج القيم الروحية بمعنى ملائم, فهتلر قد انتحر وتشرشل احتفل بالنصر, فأيّ بشاعة قد رسمها لنا العالم المادي بقسرياته, وللاسف، تلك القسرية المادية موجودة حتى اليوم, بل تفاقم ايقاعها, ووجدت من يستوعبها من دون وعي, بل بتسليم اعمى يقبل حتى بجلد الذات, وبدل أن يسود المعنى السلمي الروحي, الذي ارتبط بعلمنة الدولة وقانونها الوضعي, على اعتبار أنه مثال قبوله اوسع للقانون الديني, ولا ندري المرات التي نسخ فيها واقعنا المادي هتلر, الذي تعددت نماذجه بهيئات مختلفة, وكذلك المادية الدينية بعد سقوط نظم الدولة, ولدت لنا تلك المادية مجتمع الطائفة, الذي كان اضافة الى ساكسونيته البشعة, اشبه بهيردوتيا لابد من أن تفعل فعلتها, وخلو الخصوم يجعلها تخلق خصوما لها وتقوم بتصفيتهم, بينما بقيت العلمانية عزلاء، والتي كانت قد تربت في كنف الدولة ونظامها الحيوي, ولم تغادر قناعتها الروحية, وهي مثلت بجدارة دينا روحيا فائقا وإن افتقدت الى الاعراف .
ثمة تساؤل مسالم عن حياتنا منذ العام 2003 الى اليوم, كم من المآسي عاش الناس المتدينون روحيا؟ طبعا هناك الاف الاجابات، ولكن لا تخرج عن افقها المنحاز, وتتفق ولا تهتم مع الذين لا تهدف مسالمتهم الى اي تبرير اخلاقي لموقفهم, بل هي على العكس، قد تكون وجها اخر من القتل الطائفي, الذي كان يبرر موقفه الاخلاقي, ويؤكد حقه الديني, فهو يرى الدفاع عن معتقده واجبا, وما اكتفت الماديات الدينية بهذا فقط , بل شرعنت الحياة وفق قانون الغابة, فانعدم اي معنى روحي, بينما المعنى العضوي ما انجرت علمانيته الى نفس المنزلق الذي انجرت اليه المادية الدينية, وبقيت تراهن على المعنى السلمي والتزام العامل الانساني في الحدود المتاحة, واعطت لنفسها الانطباع المرضي والقناعة بالموقف الانساني بصيغته المدنية, وانعدم فيها اي تجاوز على حق الغير, مناقضة المادية الدينية التي ضاعت فيها المعايير, وانعدم فيها اي نفس مسالمة, ولا يمر على خاطر احد فيها قوله تعالى: ( فإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، ومؤكد أن السلم هو معنى روحي سمح تفتقده حياتنا الى حد كبير, والدين احوج الى السمو الروحي السلمي، كعبادة روحية وتربية للنفس البشرية .