الكمامة
ثقافة
2020/06/21
+A
-A
عبدالزهرة زكي
تقيدت، مكرهاً، بارتداء الكمامة كلما كنت في مكان عام بعد انتشار وباء كورونا. أستطيع ردَّ هذا الإكراه إلى دافع نفسي يعود بذكراه إلى الثمانينيات، ذلك هو انزعاجي من (قناع الوقاية) الذي تسلمته في اليوم الأول لجنديتي في جبهة الحرب حينذاك، أتوقع أن معظم الجنود كانوا لا يحبذون حتى مجرد حمل القناع.
في مثل تلك الظروف فإن كل شيء يبدو ثقيلاً على جندي متبرم من حياة تدفع به نحو الموت، وكان كل ما يذكّر بالموت يستحيل إلى موضع كراهية لا واعية، قناع الوقاية الكيمياوي كان من أشد المعدات إحالة لأبشع أنواع الميتات في الحرب. كان قناعاً روسياً بلاستيكياً يغطي الوجه كله وينتهي عند موضع بمرشحة هي أشبه بخرطوم، هيئة القناع ووظيفته التي تقترن بالحرب الكيمياوية كانت تبعث على الانزعاج، وكانت الثقة بجدوى القناع، إذا ما كان الجندي سيئ الحظ وصادف حرباً كيمياوية، تكاد تكون مهزوزة.
لكن الكمامة شأن آخر جرى اللجوء إليه طوعاً من لدن كثيرين، كنت من بينهم، قبل أن تؤكد السلطات لزوم التقيد به. في أيام الوباء المبكرة جاءني ولدي حيدر بحزمة كمامات وأكف بلاستيكية واقية، ومن حينها لم أخرج لمكان عام من دون كمامة وكفوف. التزامي المكره لم يمنع من الاستعانة بالكمامة والكفوف كوسيلة تساعد في الوقاية من وباء لا علاج له ولا وقاية منه بغير ما يقيد به المرء نفسه من إجراءات ووسائل تساعده في صيانة جسده من التعرض لخطر الوباء.
كان من محاسن الأقدار أن يجري تطبّع كثير من العراقيين مع الكمامة وذلك قبل الوباء بأشهر، مع بدء التظاهرات التي جعلت من الكمامة أيقونة لافتة من أيقونات الاحتجاج بعد الإفراط في استخدام الأعيرة الدخانية خلال أسابيع التظاهر الأولى. ولعلّ من المحاسن المهمة لهذا التطبّع احتفاظ كثير من الصيدليات ومخازن الدواء والمعدات الطبية بكميات كبيرة من الكمامات التي باتت قبل الوباء تجارة صحية رائجة برواج الطلب إليها من المتظاهرين في مختلف محافظات الوسط والجنوب.
بهذا لم يعانِ العراقيون كثيراً، عند انتشار كورونا، في تأمين حاجتهم من الكمامات التي باتت مشكلة جذرية من مشكلات مواجهة المرض في كثير من البلدان. أعتقد أن شعوب آسيا هي أيضاً لم تعان مشكلة في الحصول على كمامات، معظم أبناء هذه الشعوب كانوا يرتدون الكمامات في حياتهم العامة قبل الوباء بسنوات، خصوصاً حين يكونون في مطارات أو أسواق مكتظة.
الكمامة الآن أيقونة العالم كله في ظروف الوباء. قصيدتي المبكّرة عن الوباء التي نشرت هنا، في ثقافية (الصباح) تفاجأت حين رافقتها صورة لي بكمامة، وكانت تلك صورةً مصنوعة بمهارة تقنية من الصديق الفنان زياد جسام.
أشعر أحياناً كثيرة بمشكلات طفيفة جراء استخدام الكمامة لكن هذه مشكلات تهون كثيراً أمام الخطر الفعلي للمرض، وهي مشكلات لا صلة لها بالحاجز النفسي المتولد جراء (قناع الوقاية) الكيمياوي.
في المرات التي كان يُطلَب فيها منا، نحن جنود الحرب الثمانينية، إجراء ممارسة ارتداء القناع، غالباً ما كنت أتذرع بعمل آخر للتملص من تلك الممارسات، وحقيقةً لم أرتد القناع طيلة سنوات الحرب الثمانية سوى في المرة الأولى التي تسلمت فيها القناع وذلك لضبط مقاساته على الرأس والوجه، فيما أرغم الجميع على ارتداء الأقنعة في مرة أخرى، وكانت في نهايات الحرب، حينها قيل لنا أن معلومات استخبارية تحذّر من احتمال لجوء القوات الإيرانية لاستخدام الأسلحة الكيمياوية في قاطع العمليات الذي كنت فيه، في الشيب بالعمارة، استغرق ذلك منا ساعات بالقناع المزعج قبل أن تأتي الأوامر بانتهاء (الممارسة). وبعد انتهائها بساعات تسرب ما بين الجنود خبر بأن (الكيمياوي) قد جرى استخدامه في القاطع الشمالي، ولم يتحدث أحد من الجنود وقتها بمن كان قد استخدم هذا السلاح المحظور في ذلك القاطع.
كمامة كورونا تستعيد هذه الذكرى، ومعها تحمل لي هذه المشاعر المنزعجة من (قناع الوقاية) الروسي.
الحاجة الفعلية حالياً إلى الكمامة هي أكثر واقعية من الحاجة المحتملة آنذاك لقناع الوقاية. وسيكون من غير المتوقع أن يجري الاستغناء سريعاً عن الكمامة في حال زوال أخطار المرض، لعل الكمامة ستكون بعضاً من التغيرات التي سيحملها البشر معهم إلى حياتهم ما بعد كورونا.
في الحياة العربية القديمة كان التكمّمُ بعضاً من مزايا الزي العربي وتطويعه في مواجهة بيئة الصحراء وتقلباتها. جاء في (لسان العرب) لابن منظور: "وإِنه لحَسن الكِمَّةِ، أَي التكمُّم، كما تقول: إِنه لحسن الجِلسة، وكَمَّ الشيءَ يَكُمُّه كمّاً: طيَّنه وسَدَّه". يستشهد ابن منظور على ذلك ببيت للأخطل في وصف الخمر:
كُمَّتْ ثلاثةَ أَحوالٍ بِطِينتِها،
حتى اشتراها عِبادِيٌّ بدينارِ.
وكان الأصمعي يقول: "كمَمْتُ رأْسَ الدَّنِّ أَي سَدَدْته.
الكمامة، بموجب هذا، وحسب ابن منظور هي: "شيءٌ يُسدُّ به فم البعير والفرس لئلا يَعَض"، فيما يقول ثانية: "لئلا يُؤْذيها الذباب". الكمامة المعاصرة لا صلة لها بنزعة العض لدى المتكمم، إنها ما نسد به الفم والأنف للحيلولة من دون اختراق الفيروس الجسد، وبما يقابل تفادي أذى الذباب.
في الاستخدام العربي القديم تكون الكمامة، في الغالب، وسيلة لحماية الخارج مما هو مكمم، قد يستثنى من هذا منع أذى الذباب، والشجر إذا تكمم، ينقل ابن منظور عن الزجاج قوله في (النخل ذات الأكمام): "عنى بالأَكمام ما غَطَّى. وكل شجرة تخرج ما هو مُكَمَّم فهي ذات أَكمام. وأَكمامُ النخلة: ما غَطى جُمّارَها من السَّعَف والليف والجِذْع". لكن استخدامنا المعاصر للكمامة قريب من المعنى الذي أراده الزجاج؛ حماية داخل الكمامة من أثر الخارج.
لكن في العربية هناك (اللثام)، وهو الأقرب لاستخدام الكمامة. يعرّف (لسان العرب) اللثام على أنه: "ردُّ المرأَة قناعَها على أَنفها وردُّ الرجل عمامَته على أَنفه". اللثام بموجب هذا التعريف توظيف قطعة معينة من ملابس لتؤدي غرضاً مضافاً لوظيفتها الأساس". المرأة ترد قناعها على أنفها، والرجل يردّ عمامته على أنفه، فيما الكمامة المعاصرة قطعة مضافة ومحددة بغرض معين.
يميز الفراء بين وظيفتين مختلفتين للثام واللفام، حين يقول: "اللِّثام ما كان على الفم من النقاب، واللِّفام ما كان على الأَرْنبة". لكن اللثام، بالعربية، تعني التقبيل أيضاً؛ لثمها قبّلها.. بموجب كورونا وظروفها بات التقبيل/اللثام مما يجري تفاديه، لكن الشاعر القديم يجد في اللثام (لثام الوجه) ما يحول دون اللثام (التقبيل)، يقول ابن الرومي:
ألا لا عيْشَ لي إلا زهيدا
ودونَ لِثام من أهوى لِثامُ.
كورونا يحول دون اللثام/ التقبيل، بينما يفرض قيمة أخرى مضافة للثام/ الكمامة.
الكمامة لا تحول دون اللثام حسب، وإنما تخفي أيضاً الكثير مما يمكن أن يرافق الكلام، ويساعد في معرفة القول وحقيقته؛ الابتسامة، الحزن، حركة الشفاه، تغيرات الوجه.
إذا ما استثنيت بعض التعابير السريعة الكافية للمعاملات اليومية المباشرة فإني واقعاً لم أجرب للآن الكلام الجاد من خلال كمامة.
الكلمات وحدها لا تكفي. في بعض الأحيان يكون الجسد كله متكلماً، وما الكلمات إلا خلاصة ما يقوله
الجسد.