من ميدان المرجعيَّة إلى شجاعة الرَّفض

ثقافة 2020/06/27
...

 
د. محمد حسين الرفاعي
 
[I]
شجاعةُ الوجود، وشجاعة الذِّهاب إلى الوجود الأصليِّ، هي التي تصنع التاريخ؛ إنَّها تخلقه وتحدد اِتجاهه وتعيد إنتاجه. وهذا الأخير، أي التاريخ المجتمعيّ، نتاجُ فعل- وحركة- وموقف. كل ذلك حينما يقوم على فكرة مواجهة سلطة جائرة من أجل العدالة، والدولة العادلة، يسحب الطبقات المجتمعيَّة التي تقع [خارجَ- السلطة] إليه. لأنَّ كل حركة مجتمعيَّة تاريخية أصليَّة بدأت، وتبدأ من الأسفل إلى الأعلى، وليس العكس. ولكن أيَّة معانٍ يتضمَّنُ هذا القيام: قيام الحركة على فكرة مواجهة سلطة جائرة؟ وكيف يمكن فهمه ضمن مفهوم الحركة المجتمعيَّة الكُلِّيَّة؟ 
حينما نكون أمام مفهوم الحركة المجتمعيَّة، فإنَّ التَّساؤل الأول الذي نتوقف عنده هو تساؤل الشرعية المجتمعيَّة التي من شأن الحركة المجتمعيَّة. وإنَّه، أي التَّساؤل، ينفتح مباشرةً على حقول فهم ثلاثة: 
I- [حقل- الفهم] الذي يتعلَّق بعلاقة الفرد بالمجتمع، وتقويم ذلك على أساس الذَّات الفاعلة، والفعل المجتمعيّ. تستمد الحركة، التي تواجه السلطة، شرعيَّتها من نقلِ- واِنتقال الفرد من كونه خاضعاً- محدَّداً سلفاً، إلى كونه ثائراً على التحديد القَبْليِّ له ولإمكانات وجوده. 
II- [حقل- الفهم] الذي يتمثَّل بعلاقة السلطة بالمجتمع، وفهم ذلك على أساس ماهيَّة العلاقة بين السلطة وبين [المجتمعيّ- بعامَّةٍ]، وبين المجتمعيَّات الصغيرة بخاصَّةٍ. تأتي شرعية الحركة المجتمعيَّة التي تواجه السلطة، ضمن هذا الحقل، من نقل- واِنتقال المجتمع من كونه مجتمعاً جامداً- ساكناً إلى كونه مجتمعاً فاعلاً- متحرِّكاً. 
III- [حقل- الفهم] الذي يتضمَّنُ معنى الشرعية المجتمعيَّة ومصادر هذي الشرعية المجتمعيَّة، والقضايا التي تطرحها الحركة المجتمعيَّة على أساس هذي الشرعية. تستمد الحركة المجتمعيَّة، والحال هذي، شرعيَّتها المجتمعيَّة، اِنطلاقاً من نقل- واِنتقال الشرعية المجتمعيَّة التي تقوم عليها السلطة، من كونها الشرعية المجتمعيَّة الواحدة- والوحيدة، إلى كونها شرعية مجتمعيَّة مُزيَّفة- مُفبركة قائمة على سلطة فرد واحد، أو حزب واحد، أو جماعة واحدة.
 
[II]
في الأنظمة الديكتاتورية، أي تلك التي تقوم على اِحتكار سلطة تحديد الفعاليَّة المجتمعيَّة بعامَّةٍ، والفعل المجتمعيّ بخاصَّةٍ، من قِبَلِ فرد- ديكتاتور واحد، تتميز الهَويَّة، وتتميز الآيديولوجيا المجتمعيَّة بالوحدة الشموليَّة التي تناهض، بكل الأساليب والأدوات، كل ضروب الاِختلاف والتعدُّد والتنوع المجتمعيَّة، وتذهب، [في- كُلِّ- مَرَّةٍ] يظهر أي ضرب من ضروب الاِختلاف، إلى مستوى وضعه ضمن الوحدة المجتمعيَّة- الكُلِّيَّة- الشمولية، وإنْ كان ذلك بواسطة العنف- أو التهديد بممارسة العنف (: العنف من قِبَلِ فرد واحد، أو حزب واحد، أو جماعة واحدة).
وهكذا نكون مباشرةً أمام حقلين من التعامل مع هذا النوع من الأنظمة من قَبلَ أيَّة حركة مجتمعيَّة، مهما كانت: 
I- حقل الاِختلاف والتباين، والذهاب نحو تحديد جديد للإنسان، والمجتمع، والوجود. وإعادة تحديد علاقة الفرد بالمجتمع، وإعادة فهم علاقة السلطة بالمجتمع. وحينما تأتي الحركة المجتمعيَّة إلى مستوى الظهور المجتمعيّ، نكون أمام مفهوم واحد تقوم الحركة بكُلِّيَّتِها، عليه، هو مفهوم الشجاعة في سبيل إعادة تعريف الوجود المجتمعيّ للفرد، والجماعة، والمجتمعيَّات الصغيرة، وصولاً إلى المجتمع الكُلِّيّ. تندرج ضمن هذا الحقل كل الحركات المجتمعيَّة في التاريخ التي أدَّت إلى ثورة كُلِّيَّة، في الآيديولوجيا المجتمعيَّة، من جهة أولى، وفي فهم العلاقة بين الذَّات الفاعلة والسلطة الجائرة، من جهة ثانية، وفي الرابطة العميقة بين الإنسان والآيديولوجيا المجتمعيَّة الجديدة، من جهة ثالثة. وفي هذا السَّبيل، يخسر أصحاب هذا النوع من الحركات المجتمعيَّة اِمتيازاتهم المجتمعيَّة، وفي أغلب الأحايين يذهبون، بتجاوز مُلهمٍ لذواتهم، إلى إعادة تحديد التاريخ المجتمعيّ. 
II- حقل التشابه والتطابق، والذهاب نحو التطابق مع تحديد الإنسان، والمجتمع، والوجود، بالاِنطلاق من السلطة القائمة- والآيديولوجيا السائدة. والبقاء عند تحديد علاقة الفرد بالمجتمع، بواسطتهما، وفهم علاقة السلطة بالمجتمع، اِنطلاقا منهما. وحينما تأتي هذه الحركة المجتمعيَّة إلى مستوى الظهور المجتمعيّ، نكون أمام مفهوم واحد تقوم الحركة بكُلِّيَّتِها، عليه، هو مفهوم فبركة مفهوم الحركة المجتمعيَّة في سبيل تقوية- وتنشيط الوجود المجتمعيّ للفرد، والجماعة، والمجتمعيات الصغيرة، وصولاً إلى المجتمع الكُلِّيّ. تندرج ضمن هذا الحقل كل الحركات المجتمعيَّة في التاريخ التي لم تؤدِ إلى ثورة كُلِّيَّة، ولم يخسر أصحابها اِمتيازاتهم المجتمعيَّة، بل نجدهم، بعد فترة، في موقع القرار- متواطئين مع السلطة. 
 
[III]
إنَّنا، حينما نتساءل عن الحركة المجتمعيَّة التي قادها السيد الشهيد الثَّاني محمَّد محمَّد صادق الصدر، أمام حركة مجتمعيَّة تقوم على الاِختلاف الكُلِّيّ، والتباين الصريح والواضح بين السلطة- والآيديولوجيا السائدة آنذاك، والأسس والمبادئ والقضايا التي قامت عليها الحركةُ. وهكذا، نكون، عند مستوى الظهور المجتمعيّ، أمام قضايا الحركة، والمبادئ التي قامت عليها، والأسس التي وضعتها حافرةً إياها في التاريخ المجتمعيّ. 
ومن جهة أنها حركةُ فردٍ- مؤسسة، فإننا أمام شجاعةِ وجود فذة. أعني بذلك إنَّنا أمام حركة مجتمعيَّة قائمة على قائد كاريزمي لا يمكن الوقوف عند حركته إلاَّ بالاِنطلاق من مفهوم [الفرد- المؤسسة]: أي ذلك الفرد الذي يتوفَّر على كل الإمكانات الذاتيَّة- والمجتمعيَّة التي تمكِّنه من إعادة تحديد- وتفهيم المؤسسة المجتمعيَّة للذوات الفاعلة.
 
[IV]
حينما نتوقف عند ذلك، فإننا نفتح الفهم على الصراع المعرفيّ- المجتمعيّ بين ركائز مجتمعيَّة تقوم عليها المؤسسة المجتمعيَّة القائمة- السائدة من جهة، وبين الركائز المجتمعيَّة الجديدة التي تريد أنْ تقوم عليها المؤسسة المجتمعيَّة الجديدة، التي تتمثَّل بالقائد الكاريزمي للحركة المجتمعيَّة التي كانت قد قامت [على- الضِّدِّ- مِنْ- السائد]، من جهةٍ أخرى. 
وإنَّ ذلك يرتبط، اِرتباطاً مباشراً بمفاهيم من نوع التنظيم المجتمعيّ الجديد، والتقنين المجتمعيّ الجديد، والضبط المجتمعيّ الجديد، والوظيفة المجتمعيَّة الجديدة. كيف يكون ذلك؟ إنَّه لا يكون إلاَّ بالاِنطلاق من تهديم وتفكيك كل الأوهام المجتمعيَّة التي وضعتها، وكانت، [في- كُلِّ- مَرَّةٍ]، تضعها السلطة في تحديدها للخوف، والتخويف من الظهور المجتمعيّ، سياسيَّاً. لأنَّ لا سبيلَ لاِستمرار أيَّة سلطة ديكتاتورية- شمولية إلاَّ بواسطة التخويف- وبثِّ الخوف في الذَّوات الفاعلة من ممارسة أي فعل- ومِنْ ثُمَّ فهم- ومن بَعدُ حركة. 
[V]
وإنَّهُ، لمجرَّد أن نكون أمام ذلك، فإنَّ أوَّل خطوة نحو الثورة على السلطة- والآيديولوجيا السائدة آنذاك، تكون قد بدأت. إنَّها تحطيم- وتهديم الأسس التي تقوم عليها عمليات التخويف التي كانت تمارسها السلطة. إنَّها الاِنقلاب، بواسطة مفاهيم جديدة قامت على [شجاعة- الظهور- المجتمعيّ]، أي شجاعة الذِّهاب إلى الوجود المجتمعيّ على نحو مختلف اِختلافاً كُلِّيَّاً عن كل تحديدات الذِّهاب إلى الوجود المجتمعيّ التي تسبقه. إنَّها المواجهة الصريحة مع كل التحديدات التي كانت قد فرضتها سلطة ديكتاتورية. 
 
[VI]
يمكن للمبتدئين في التَّساؤل والفهم والتفكير بمفهوم الحركة المجتمعيَّة أن يفبركوا تاريخها، ومبادئها، وأسسها، وما قامت به؛ أو يتوهموا ويُلصقوا ما لا ينتمي لها بها. ولكن، اللَّحظة الحاسمة في فهم الحركة المجتمعيَّة التي قامت وتقوم [على- الضِّدِّ- مِنْ- السائد]، هي لحظةُ فهمٍ لظهورها المجتمعيّ، وكيفه، وضمن التَّساؤل عن أيَّة أساليب وأدوات وتقنيات كانت قد اِستخدمتها في السَّبيل إلى ظهورها؟. أي لحظة فهم الفعل المجتمعيّ العامّ لقائد كاريزمي قد وضع تحديدات جديدة كُلِّيَّاً للفعل المجتمعيّ الكُلِّيّ: ضمن البِنى المجتمعيَّة الأساسيَّة. إنَّ لحظة ظهور الحركة المجتمعيَّة، أي لحظة الظهور المجتمعيّ لها، تجعل من كل ضروب الفهم الواهمة، تلك التي تُفبركها، أو تُريد أن تُفبركها، أو تلك التي تُشكك بها، أو تريد أن تُشكك بها، فراغاً في فراغ.
 
[VII]
إنَّ شجاعة الوجود، وشجاعة الظهور المجتمعيّ، حينما تنطلق من قائد كاريزمي يُحدِّدُ للحركة المجتمعيَّة أهدافها، وقضاياها، وأسسها، ولا يتوقف في سبيل تحقيق مطالبها عن كل ضروب التضحية والوفاء والاِخلاص في سبيل المجتمع، والإنسان والتاريخ؛ ولمجرَّد أن نكون أمام قائد كاريزمي لم يتوقف عن الظهور، ومواجهة كل ضروب التهديد والتخويف والعنف الذي بسهولة قد يصل، وقد وصل، إلى تصفيته هو وعائلته وأصحابه ورفاقه؛ ومتى كانت الحركة المجتمعيَّة قد اِستطاعت رسم التاريخ المجتمعيّ، بعامَّةٍ، والسياسي، بخاصَّةٍ، على نحو جديد كُلِّيَّاً، فإنَّ ذلك يضعنا أمام قوة الرَّفض، رفض أيَّة سلطة جائرة، وأية آيديولوجيا لا تضع العدل- والعدالة على رأس مهامها 
المجتمعيَّة. تلك القوَّة التي تعيد رسم التاريخ بكل تفاصيله، وتحدد اِتجاهاً لم يسبقْ أن تُصُوِّرَ حتَّى.