مَتى أقرأ الرواية ؟

ثقافة 2019/01/02
...

ياسين النصير
 اعتبر قراءة الرواية، او ديوان الشعر، أو أية مجموعة قصصية، مرتبطة بمرحلة التشكيل المعرفي لي، جزءا من مرحلة القراءة الناقدة للعمل الأدبي، وهي مرحلة تسبق تشكيل الناقد، ، شخصيا، أعتبر كتبي التي احتوت على نقود عديدة للروايات ودواوين الشعر والقصائد، هي تمارين الناقد قبل أن تتشكل نقدا، تمارين للتعرف على مرحلتين من مساري النقدي.

قراءة بيضاء
المرحلة الأولى مرحلة قراءة بيضاء لنوعية من النصوص الروائية والأدبية والشعرية والفلسفية وهي النصوص التي أنتجها المؤلفون بناء على تصورات خاصة بهم، بمعنى أن قراءتي لها كانت تتبع تلك التصورات ، التي أنتجوا فيها معارفهم المختلفة. وكنت أجد لزاما عليّ قراءتها للتعرف على ما يكتبون وعلى نوعيته واهمية حقولهم المعرفية، وعلى تصوراتهم عن العالم والإنسان والأفكار. وهي قراءة أساس لما يمكن أن يشكل حكمًا نقديًا أوليًا عنها، واعتبر كتاباتي عن الرواية والقصة والمسرح والشعر، جزءا من هذا التوجه النقدي العام للقراءة البيضاء، أي أن حاستي النقدية تشكلت من الملاحظة والثقافة والقراءة، ومن تحديدات أولية للطريقة التي اعرض بها آرائي.
فكانت النتيجة أن رصفت مجموعة من النقود بعضها إلى جوار بعض لتشكل ثيمة لكتاب يتحدث عن القصة أو الشعر أو المسرح أو التشكيل. وهي مرحلة التثبت بقدمين على أرضية النقد. ومازالت هذه المرحلة قائمة، والتي أسميتها مرحلة "المقال النقدي"، وهي مرحلة عامة لكل من كتب نقدا عندنا منذ البداية وإلى مرحلة قريبة، فمرحلة المقال النقدي، مرحلة تجزيئية لأية ظاهرة ثقافية أو اسلوبية، وهو ما عليه نقدنا العراقي بامتياز، كل نقدنا نقد مقالي، ولذلك لا تتلمس منه دراسة لظاهرة ما، لأنه تجزيئي مرحلي لا يخضع لأية ضوابط منهجية وان رصفت في كتاب واختير لها عنوانا يشملها.

مرحلة المشروع
 المرحلة الثانية ، هي ما اختاره أنا من نصوص للقراءة، وهذا يعني الوعي النقدي بدأ يخرج من إطار التلقي إلى إطار الإختيار القصدي، من القراءة البيضاء إلى القراءة الإشكالية، فعندما يتغلب الإختيار على الكم من الأعمال للقراءة، يكون الناقد قد بدأ بتلمس الطريق الأصوب نحو تشكيل هويته. في هذه المرحلة يبدأ البحث عن مشروع يشغل الأهتمام، مشروع برؤية شاملة، يمكنه أن يعالج أنواعًا أدبية وأصنافًا من المعارف والأفكارالمختلفة، ويخضعها لرؤية المشروع الذي تتبناه. فالمشروع هو الذي يتحكم باختيار ما تقرأه وما تكتبه، وأسمي هذه المرحلة "مرحلة  المشروع"، بدلًا من مرحلة المقالة النقدية.الذي تخرج الكتابة فيه من منهجية الأنا، إلى الذات النقدية، ومن مقالة الاصطفاف مع المرغوب به ،إلى بنية الفكرة المحورية لمعاينة مكونات اجتماعية وفلسفية وثقافية.  ويبدو أن هذه المرحلة ستتوجه إلى الكتب النقدية والفكرية والفلسفية الأكثر شمولية، ويقل الأهتمام جذريا بالكتب المؤلفة من الروايات والقصص والقصائد. فالمشروع النقدي يتطلب أن تقرأ ما وراء الروايات ودواوين الشعر وعروض المسرح، تقرأ الطبيعة والعناصر الكونة لها، و إلى جوار الفلسفة والعلوم، تقرأ في البنى اللاواعية لتركيب الأفكار، من اجل أن تبنى قاعدة تصورات عن المشروع النقدي، عليك بالتركيبة الإقتصادية، وبميادين اشتغال الجسد والروح، كي تتعامل مع كلية الرواية او الشعر.
 نقرأ كتبا فلسفية ونجد فيها شواهد من نصوص روائية وشعرية، تخص بنية المشروع النقدي دون تفصيلات خاصة بتلك الرواية أو دواوين الشعر. التفكير المركزي الذي يهيمن فيه النقد المشروع، يبدأ باختيار نوعية الكتب التي تقرأ، وللصدف ان تكون بعض هذه الكتب من التي قرأتها سابقًا، في حين أن العودة إليها في المرحلة الثانية، ستكون بهوية قراءة مختلفة، هوية القراءة الإشكالية، أي أنها تدخل في باب المصادر والمراجع لذاتها، التي تتساوى مرتبة مع الكتب الفكرية والفلسفية، فالمشروع النقدي يرفع من مستوى الرواية والقصيدة إلى مستوى
الفكر العام.

المشروع النقدي
اين أصبحت الرواية العراقية ومجموعات قصص العراقيين والعرب ودواوين الشعر في مرحلة المشروع النقدي؟  لا شك أن القراءة لها أصبحت اختيارًا، لا تعميمًا ، أنت هنا في تكوين معرفي آخر، وعندما تجد مشروعك قد يتطور ويتجدد ويحتاج إلى تغذية بمصادر محلية، عندئذ ستعود ثانية لقراءة الرواية وديوان الشعر والمجموعات القصصية  العراقية، كي ترفد تصورك النقدي بما تحمله رؤاك من افكار تسهم في بنية مشروعك النقدي، في المرحلة الثانية، مرحلة المشروع، اصبحت القراءة للرواية وديوان الشعر قراءة مصدرية، وليست قراءة نقدية، تفرضها حاجتك إلى الشواهد والمراجع، وفي هذه الحال ستقرأها وفق منهجية مختلفة عن القراءة الأولى، ستقرأها  قراءة استكشافية.
ما حصيلة هذه التجربة التي راقبتها خلال الخمسين عامًا الماضية؟ سأجد من الضروري الحديث عنها هنا، باقتضاب، من أنها تجربة ذاتية لا ألزم أحدًا بها، تجربة خضعت لمراقبة ذاتية لما أكتبه، وحققت فيها بعض تصوراتي عن الكيفية التي ينتقل الناقد فيها من متابعة وكتابة العروض النقدية عن الكتب، إلى جعل القراءة جزءًا من المشروع النقدي، هذه الحاسة فرضتها رؤية الآلاف من القراء وهو يجوبون المكتبات لشراء الكتب، فوجدت أن القليل منهم يقرأ ضمن مشروع، لأن الوعي بالمشروع وعي مركب، ويأتي متأخرا، فيه من التفكر، والفلسفة، والرؤية النقدية الشاملة، ما يصنف الشخص ناقدًا عن الشخص قارئًا. وهي عندي الأساس الذي يفصل الناقد الذي نحن عليه، عن الناقد الأكاديمي الذي تقع عليه مسؤولية تعميق فكرة المشاريع النقدية بدلًا من المقالات النقدية. وستبقى ملاحظة عامة، وهي أن بعض الأكاديميين يكتبون المقال النقدي ضمن مشروعهم النقدي، وهو ما يجعلهم يعودون إلى بداية التصور السطحي عن الناقد. وقد يكون الأمر معكوسا، فليس كل مشروع نقدي قابل للحياة، فقد تغني مقالة جيدة لناقد، عن مشروع لم يحسن صاحبه رعايته وتنميته.