ذاكرتنا النازفة لا المثقوبة

آراء 2020/08/08
...

ناصر عمران 
لم يكن التاريخ بمعطياته ودروسه الزمنية على مستوى كبير من المصداقية عند تحوله من فعل الحدث الى فعل التدوين، فهو نتاج بشري تمتزج فيه الأهواء والمشاعر فيقدح هنا ويمدح هناك، وليس بعيداً عن رؤى السلطة ورغباتها في كتابة تاريخ يعنيها؛ لذلك يفرض المال والسلطة في مراحل زمنية كثيرة هيمنتهما الواضحة على كتابات المؤرخين.

طبعا ليست الأمور بمطلقها فالتاريخ ذاته يُحدثنا عن مواقف لمؤرخين ارتبطت أسماؤهم بالحقيقة وارتقى أصحابها أعواد المشانق من أجل كلمة الحقيقة، وكتابة تاريخها بالمبدأ الذي يؤمنون به فليس كل من ولج التاريخ وكتب عنه غابت عنه الموضوعية وبخاصة الكاتب التاريخي الحقيقي الذي لا ينطلق من الفراغ بقدر انطلاقه من معرفة الاشكالية التاريخية والحضارية، فالحضارة تموت بالانتحار لا بالقتل كما يقول (ارنولد توينبي) وهو احد المؤرخين الموضوعيين الذي يمتلك رؤية متفائلة للمستقبل ومعززة بنظرته الانسانية بالرغم من أنه خارج من رحم مدارس النظرة الاستعلائية الغربية وفكرة التوحيد الحضاري لكنه يختلف في النظرة عنها فهو يرى أن المجتمعات الأعظم اتساعا في الزمان والمكان من الدول القومية او دول المدن المستقلة او أي جماعة سياسية أخرى هي: الوحدات الاجتماعية فالمجتمعات الكبيرة التي انتجت حضارات كبيرة استوعبت حضارات ومجتمعات أخرى، فحركة التاريخ لديه ترتبط بمفهوم التحدي والاستجابة، فالتحدي هو فعل مصيري جُبلت عليه الحياة ازاء العقبات التي تواجهها وتبقى الاستجابة هي المعيار المهم كونها ردة الفعل على ذلك التحدي وعلى ضوء الاستجابة تتحقق النتائج، ولعل تجربتنا بعد سقوط النظام الاستبدادي وما رافقها من اسقاطات لم تؤشر الى حالة استجابة ايجابية قادرة على التفاعل وبناء مجتمع حضاري على المستوى الهرمي (السلطة)، في حين كانت القاعدة متسقة الى حد كبير اجتماعياً فبالرغم من سقوط النظام بأركانه وقواعده الحزبية ومرتكزاته التي أذاقت الشعب الكثير من الويلات والمظالم إلا أن ردة الفعل كانت للتسامح أكثر منها للمعاقبة، الذي حدث ان الولايات المتحدة وهي الدولة التي قامت مع حلفائها بإسقاط النظام عملت على تقسيم المجتمع عبر هرمية السلطة (مجلس الحكم) وهو بناء ألقى بتبعاته السلبية وحرك كل العقد الماضوية المجتمعية التي ليست بعيدة عن البناء التاريخي للدولة العراقية فصارت المفاهيم والانتماءات الجزئية بديلا عن المواطنة الحقيقية فاستأثرت كل مجموعة بالوطن من وجهة نظرها وانتماءاتها الفرعية، الخطوة الأهم للخروج من كل ذلك وتحقيق الاستجابة الايجابية بحسب توينبي هو التعكز على الذاكرة الحية التي تؤكد بأن تاريخ بناء الدولة منذ التأسيس الى يومنا هذا، ارتبط بمزاج القوى التي فرضت رؤيتها على شكل ومسار الدولة وزاد الطين بلة، الجغرافية العراقية الغنية بمواردها وتنوعها حتى في النوع الإنساني وطبيعته، كانت ومازالت ساحة صراعات أزلية لمراكز القوى العالمية وهي صراعات وحروب أهلكت الحرث والنسل والتي لا ناقة و لا جمل لهم بها سوى أنهم وقودها أبدا، فالصراع العثماني الفارسي وماجره من حروب والاختلاف الرؤيوي بعد ذلك في النظرة الى العراق بين الأمة والأممية والدولة القومية والاسلامية وهيمنة العسكر ونظرة القوة وخضوع الآخر وتبني الشعارات الزائفة التي لم تكن سوى قناع لهيمنة السلطة التي لا تمت الى حقيقة متبنيها، أدى كل ذلك الى نتيجة منطقية واحدة وهي ذاكرة نازفة بالألم والدم والدموع لسكان هذه الجغرافية المقطوعة الصلة بالمراحل الحضارية لبلاد الرافدين، واذا كان التاريخ يُستدل على حقائقه بالوثائق التاريخية كما يرى المؤرخون فإن ذاكرتنا ليست مثقوبة عن سنوات قريبة كان الشعب ضحية قراراتها النزقة وحروبها الخاسرة، فكيف يأتي من يقول لنا إن هذه الحروب هي حدث حضاري حقق للعراق مكانة تاريخية، ويحاول إقناعنا بها وأن الأشخاص هم صناع الحدث التاريخي في حين أنها لا تنتمي الى الوطن البتة، إن الموضوعية والرؤية المنطلقة من الإنسان وإليه وتحليل الحدث والوقائع بمنظار استشرافي مستقبلي بعيدا عن عقد الماضوية التي يحاول البعض الانتماء اليها واحيائها، هو الطريق الأسلم لحياة الجميع في هذا الوطن، الذاكرة النازفة هي من تمنح الحياة جديدها وصحتها وعدم تكرار مأساتها للوصول الى مداواتها ووقف نزيفها ولا يمكن البتة معالجتها بثقبها، لأنَّ ذلك سيقطع الصلة بينها وبين تاريخها النازف ويُعيد تأهيل الجلاد على حساب الضحايا.