من الكلمةِ إلى الصورةِ

ثقافة 2019/01/03
...

محمّد صابر عبيد
 
 
العصرُ الذي نعيشهُ اليوم في مفصلٍ أساسٍ وجوهريّ من مفاصله هو عصرُ الصورةِ بعد أن هيمنت الكلمةُ على مشاهد العصور السابقاتِ هيمنةً مطلقةً، وصارت الكلمةُ تحتَ ضغطِ الصورةِ في حَرَجٍ كبيرٍ على النحو الذي استولدَ نوعاً من الصدامِ بين الصورة والكلمة، وهو صراعٌ يستندُ إلى جذرٍ حضاريّ يتعلّق بقوّة الأدوات التي تعمل في كلّ مشهدٍ من مشاهدِ الحضارةِ، ولعلّ وصفَ عصرنا الراهن بـ (عصر الصورة) من شأنه أن يمنحَها القدرةَ على التدخّل في تفاصيل حياةِ الناسِ بقوّةٍ، وفرض سلوكيّاتٍ تناسبُ حساسيّتَها ووضعَها وأسلوبيتَها في العمل على صياغةِ المشهدِ الحضاريّ وهو يتجلّى صوريّاً في مختلفِ شواغلِ الحياةِ ونماذجها ومساقاتها.
 
الدفاع والهيمنة
هذا الصراع على تملّكِ العصرِ واحتكار حقيقتهِ بين الصورة والكلمة يأخذ أشكالاً متعدّدةً ومتنوّعةً تتمثّلُ بثنائيّةِ الدفاعِ والهيمنةِ، الدفاعُ عن النموذجِ وقد ترسّختْ معالمُهُ وبانتْ خصائصُهُ وصارَ إلى تقاليدَ راسخةٍ في المشهدِ تجتهدُ في الهيمنةِ على مساحةِ العملِ التي تشتغلُ عليها، فالكلمةُ تدافعُ عن تراثها في الهيمنة والتسلّط على فضاء الصفحةِ حين شعرتْ بأنّ الصورة بدأتْ تهدّدُ هذه الهيمنة التاريخيّة، إذ يبقى للكلمةِ حين ينحسرُ دورها نصيبٌ من الصفحةِ التي تنقلُ الفكرةَ والجمالَ والمعرفةَ مهما هيمنت الصورةُ على مُقدّراتها، ولا بدّ لهذا الصراعِ بين الكلمةِ والصورةِ أن ينتهيَ إلى نوعٍ ناعمٍ من التفاهمِ والمصالحةِ وتقبّلِ الآخرِ كي يأخذَ كلٌّ منهما حظَّهُ على سطحِ الصفحةِ وفي جوهرها.
ثمّة ثنائيّاتٌ أخرى تتجلّى في مضمار هذا الصراعِ على النحو الإجرائيّ الميدانيّ يمكن أن نعاينَ بعضَها في سياق ثنائيّة التوتر والإزاحة، وهي ثنائيّةٌ ذاتُ طبيعةٍ دراميّةٍ تشتغلُ على فعاليّة الجدلِ بين طرفيها وتفضي حتماً إلى فعاليّة فلسفيّة في هذا المضمار. الكلمةُ على الصفحةِ بعد دخولِ الصورةِ إلى منافستها وإحراجها تعاني من حالةِ توتّرٍ بفعلِ ما تقوم به الصورةُ من فعاليّةِ إزاحةٍ للكلمةِ وقد رضختْ وأذعنتْ للقادمِ العاصفِ كلّما شعرتْ أنّ مقاومتَها ضَعُفتْ ولم يعدْ بوسعها الصمود كما يجبُ، فالصورةُ بما تنطوي عليه من ميكانيزماتٍ هائلةِ القوّةِ والجبروتِ والحلولِ والتمكّن والسيطرة تُسخّر ما أمكنها من طاقاتٍ لفرضِ مثالِها وعزلِ ما دونه، فالتوتّرُ يتحرّكُ بقوّةٍ وارتباكٍ بحيثُ تنتشرُ شظاياهُ على أوسعِ مساحةٍ ممكنةٍ في فضاءِ العملِ على الصفحةِ، وهو في حركتِهِ المضطربةِ هذه يزيحُ من أمامهِ كلَّ ما يعيقُ تماديهِ في استغلالِ مساحاتِ الحركةِ والنفوذِ.
ثنائيّةٌ تنازعيّةٌ أخرى تتماثلُ للحضورِ على صعيدٍ ثقافيٍّ بوسعنا وصفها بثنائيّةِ المركز والهامش، وهو صراعٌ تقليديٌّ أزليٌّ ذو طبيعة حضاريّة لأجلِ الحصولِ على الفرصةِ الأكبرِ في ميدانِ العملِ لاحتلالِ مقامِ المركزِ وتنحيةِ ما عداه نحو الهامش، وهذا التنازعُ على موقعِ الصدارةِ بين الكلمة والصورةِ نحو اعتلاءِ منصّة المركزِ مرَّ بمراحلَ كثيرةٍ سادت الكلمةُ فيها وفرضتْ رؤيتها على منطقة المركز، ثمّ ما لبثتْ أن انزاحتْ إلى الهامشِ بإزاءِ انكماشِ حضورِها في ظلّ تقدّمِ طلائعِ الصورةِ وزحفها نحو منطقةِ الضوءِ في قمّة المركز، من دونِ أن يخفتَ الصراعُ الناعمِ الخفيّ بين جناحي الصفحةِ (المركز والهامش) بوصفه صراعاً مستمرّاً لا يتوقّف طالما أنّ وجودَ أحدهما مرهونٌ بوجودِ الآخر.
 
الجدل والصراع
هذه الصورة الصراعيّةُ التنازعيّةُ إنّما هي انعكاسٌ ثقافيٌّ للمجتمعِ في الكثير من طبقاته وتمثّلاته ومظاهره وخفاياه، وقد يوصفُ هذا الانعكاسُ عادةً بأنّه من موجِباتِ الفعلِ الحضاريِّ التقليديِّ لدى مختلفِ شعوبِ العالم، ويفسّرُ على نحوٍ دقيقٍ طبيعةَ الحضاراتِ ومراحلِها وآفاقِ تحدّيها للتاريخِ والزمنِ، لا يمكن فهم أيّة حضارةٍ من غير أن نتمعّنَ بروحٍ معرفيّةٍ راقيةٍ حساسيّةَ التنازعِ بإشكاليّاته العديدةِ الدائمةِ التغيّرِ والجدلِ والصراعِ، لأنّها الصورةَ التنازعيّةَ الصراعيّةَ التي تكشفُ عن حقيقةِ التشكّلِ الداخليِّ العميقِ للحراكِ المتوالدِ بين طرفي الفعاليّةِ الحضاريّة، بقيمتِها النوعيّة الخالصةِ القائمةِ أساساً على آليّة الجدلِ القادرةِ على تمثيلِ الرؤية الحضاريّة في أعلى درجات تشكّلِها، وعلى الرغم ممّا يبدو على نهج التنازعِ والصراعِ ومرجعيّته الدلاليّة العامّة من توجّهٍ نحوَ الهدمِ إلّا أنّ التوجّهَ نحو البناء في سياقٍ آخرَ هو الأهمّ والأكثرُ حضوراً في هذا الفضاء. 
تعدُّ معماريّةُ الصفحةِ في شكلها الفنيّ الجماليّ وهي تحوي الكلمةَ أو الصورةَ من أوّل أولويّاتِ التشكيلِ في بناء النصّ الكتابيّ أو الصوريّ، وهذه المعماريّةُ تخضعُ في قدْرٍ مناسبٍ منها لطبيعة الموضوعِ الذي يشتغلُ على الصفحةِ تشكيليّاً وإيقاعيّاً وسيميائيّاً، فالصفحةُ من دون كلمةٍ أو صورةٍ هي كيانٌ مُحايدٌ لا يؤدي معنىً ولا يثيرُ علامةً تستحقُّ الاهتمامَ أو النظرَ أو الالتفاتَ أو التأويل، لكنّها حين تتحرّكُ الكلمةُ أو الصورةُ على سطحها بدلالةِ الرؤيةِ والتجربةِ والخطاب تبدأ فوراً بِصوغِ المعنى والقيمة والدلالة على نحوٍ من الأنحاءِ، وهذه الصياغةُ تتباينُ في نموذجِها وحساسيّةِ خطابِها بين الكلمةِ والصورةِ داخل مستقبِلات التلقّي، لأنّ كلّاً منهما له قوانينُهُ وقواعدُهُ في العملِ على سطح الورقةِ.
الصورة والكلمة
وإذا كان للكلمةِ تراثٌ عميقٌ (أفقيٌّ وعموديٌّ) يمتدُّ إلى زمنٍ طويلٍ في مجال الصوغ الشعريّ والسرديّ مع الصفحةِ في سياق تشكيلِ معماريّتها المناسبةِ للموضوعِ الكلاميّ، فإنّ الصورةَ على الصفحةِ وفي سياقِ هذه الوظيفةِ تُعدُّ حديثةَ العهدِ تقريباً قياساً بالكلمةِ، بالمعنى الذي يؤسّسُ لعلاقاتٍ جديدةٍ في بناء هذه المعماريّةِ التي يجبُ أن تفيدَ من معطياتِ الصورةِ وتمثّلاتِها، ولاسيّما بعد أن احتلّت الصورةُ مواقعَ مركزيّةً في مجملِ الحراكِ الثقافيّ والإعلاميّ والإنسانيّ في مجتمعِ اليومِ عموماً، ولم يعد من المناسبِ التغافلُ عن حساسيّتها وإهمالِ دورها في صناعةِ المشهدِ على مستوياتٍ مختلفةٍ، بل على العكس من ذلك ينبغي استيعابُ حضورِ الصورةِ والتعاملُ معها بطاقةٍ إيجابيّةٍ على مستوى الفهمِ والممارسةِ والتداولِ، فضلاً عن السعي الحثيثِ المتواصلِ للإفادةِ منها وتكييفِ أدواتِها كي يمكنَ توظيفُ معطياتِها على النحو الصحيحِ والمُنتِجِ والفاعلِ والمثيرِ، وبما يساعدها على التفاعلِ النوعيّ الأصيلِ مع الكلمة في سياق تمكينها وجعلها قادرة أكثر على الوصول إلى مجتمع التلقّي، وهي الأكثرُ تلقّياً وتفاعلاً في هذا السياق مع المتلقّين لطاقتها التواصليّة والتداوليّة
 العالية.