المغربي صدوق نورالدين: لا يتحقّق النقد من دون أطر مفاهيميَّة تحدّد منهجيته الفكريَّة
ثقافة
2020/08/24
+A
-A
البصرة/ صفاء ذياب
يمثّل الناقد والروائي المغربي صدوق نور الدين أنموذجاً للكاتب الذي يبحث في تفاصيل أدبية لا ينتبه لها العديد من النقّاد، ذلك أنه يبحر في عوالم النص الأدبي من جوانب عدّة، فمنذ كتابه الأول "حدود النص الأدبي: دراسة في التطبيق الإبداعي" 1984، وكتبه التي تلته "إشكالية الخطاب الروائي العربي"، "النص الأدبي، مظاهر وتجليات الصلة بالقديم"، "سير المفكرين الذاتية"، "السرد والحرية"، "انغلاق الدائرة.. دراسات في الرواية العربية"، و "رواية الذاكرة وذاكرة الرواية"، انطلق إلى عوالم خاصة وسمت خطابه النقدي. هذا الخطاب الذي لم يوقفه عن الاتجاه للنص الإبداعي، فأصدر ثلاثة أعمال روائية: "الكوندليني"، "الروائي" و"مريض الرواية":
* حرثت في عدّة مفاهيم نظرية، مثل حدود النص، رواية الذاكرة، مظاهر النص الأدبي، وغيرها من المفاهيم. كيف يبني الناقد مشروعه في ظل المدارس النقدية التي لا تتوقف؟
- أيّ تصوّر للعملية النقدية، لا يمكن أن يتحقّق إلا بتمثّل أطر مفاهيمية تحدّد المنهجية التي يدرس ويحلّل النص الأدبي في ضوئها. إلّا أنّي في مساري النقدي لم أنزع إلى الابتداء بتحديد مفهوم، بل آثرت الانطلاق من قراءة النص ومحاولة فهمه وتفسيره، وبعدها تأويله. من ثمَّ تتشكّل العملية النقدية على القراءة المقارنة في محاولة لمتابعة التحوّلات التي يخضع لها الإبداع بالنسبة للمبدع الواحد. كمثال قراءة الروائي الراحل "محمد زفزاف" في نصّه التأسيسي "المرأة والوردة"، والرواية الختم "أفواه واسعة". وهذا في العمق ما يمنح رؤية شمولية تفيد من تحولات المدارس النقدية على تنوعها وتعطي الأهمية بداية للنص الأدبي.
* ذهبت للنظر في أزمة التنوير العربي وبداية الرواية من خلال كتابك عن رواية "زينب". ما الذي يعيدنا لقراءة تاريخنا القريب أو البعيد؟
- ولدت فكرة تأليف الكتاب المتعلق بـ "زينب"، انطلاقاً من قراءات نقدية متعددة انبنت على الاختلاف بصدد مفهوم النشأة الأولى للكتابة الروائية العربية. وكما تعلم، فجنس الرواية أوروبي ارتبط بالتحضّر على مستوى فكرة بروز (المدينة)، وهو ما جعل التأثير على مستوى القراءة والاطلاع يلحق النخبة التي هاجرت مبكراً إلى فرنسا أو إنكلترا. وكان "هيكل" واحداً منها، مثلما الأمر بالنسبة لـ "طه حسين" و "عبد الله العروي" وغيرهما. فـ "زينب" كتبت تحت تأثير قراءة اعترافات "جان جاك روسو". ولـ "هيكل" كتاب أفرد لـ "روسو"، علماً بتوجّهه القانوني. وبالفعل فإنّ من يقرأ "زينب" في صيغتها الجمالية ومادتها المؤسسة على موضوعة "الحب" وامتداداته في سياق بنية اجتماعية تقليدية ينتهي إلى أنّنا أمام تجربة متكاملة العناصر والمواصفات، وفي ظل الغياب المطلق لتحديد دقيق لفن كتابة الرواية، وبدون إقصاء ما يعدُّ نواة عربية لهذا الفن الذي مثل نقلة على مستوى التعبير الأدبي العربي.
* المحنة التي يواجهها الناقد في إصدار رواية له، قد توقعه في إشكالية النظر والتطبيق، وهو ما فعلته في روايتيك: الكوندليني والروائي. كيف ينتقل الناقد لكتابة روايته الأولى؟
- جاءت بداياتي في التعبير إبداعية. إذ خضت في ممارسة الكتابة الشعرية دون أن أتوفّق لأنتقل إلى السرد من خلال جنس القصة القصيرة، إذ نشرت محاولات في العديد من المنابر العربية كمثال: "الطليعة الأدبية"، "آفاق عربية" و"فنون". إلّا أنّ هذه المحاولات انتهت إلى التلف والضياع. ولذلك فأنا لم أعانِ من محنة، بل كان عليَّ فقط تأمّل اللحظة والنهل من "البئر الأولى"، وكما تعرف فما يتحكّم في العملية الإبداعية مكوّن نفسي أو نفساني هو بالتحديد "التلقائية". إذ وبرغم هذا الوعي بعملية التأليف، فإن الصورة التي ينتهي إليها الإبداع يتداخل فيها الموعى به وغيره. إذ ومهما جهدنا في التخطيط لشكل الكتابة، فإن ما يسرقنا تكسير الجهد بحكم قوة التجارب الحياتية وعنف الواقع إلى تنوع القراءات.
* ربَّما حاولت تقديم سيرة ذهنية وروائية في الوقت نفسه في عملك (الروائي)، من خلال استثمار شخصية محمد زفزاف. ما الذي يجعل من كاتب يستحضر شخصية أخرى، في الوقت الذي يطالب فيه بخلق عوالمه
الخاصة؟
- تعرّفت على الراحل "محمد زفزاف" في (1977). ومن حينها حرصت على شيئين: التردّد عليه في شقته، والكتابة عن أي عمل كان يصدره. وأشير بالمناسبة إلى أنّي أنجزت كتاباً نقدياً عنه أرسلته لـ "دار الآداب" لولا أنّ الدكتور "سهيل إدريس" لم يتولَّ حتى مهمة الرد بالقبول أو الرفض. ومنذ تلك الفترة، لاسيّما عقب الرحيل وأنا أفكّر في الكتابة عنه بصيغة أو ثانية، إلى أن قرأت رواية متميزة للروائي اللبناني "ربيع جابر": (رالف رزق الله في المرآة). لقد كانت النواة التي أثّرت فيَّ كثيراً ودفعت بي للكتابة عنه، وبالأحرى عن علاقتي به.
وإذا كانت "الروائي" مثّلت الجزء الأول من هذه العلاقة، فلقد أقدمت على إنجاز جزء ثانٍ وسمته بـ "سيرة العائد" إلى "مذكرات" اخترت عنونتها بـ "كان كاتباً كبيراً". وسأعمل في هذه السنة على إصدار العمل كاملاً في كتاب واحد يحمل "كتاب محمد زفزاف".
* قدّم النقد المغربي نماذج كثيرة أثرت في مسيرة النقد العربي، مثل محمد مفتاح وسعيد يقطين وسعيد بنكراد وغيرهم الكثير. كيف نفهم الخطاب النقدي المغربي؟
- أعتقد بأنَّه وإلى فترة كان المشارقة يعدون المغرب بلد النقد وليس الإبداع، فيما يتحقق الأخير في المشرق. والواقع أن هذه النظرة ساذجة. ذلك أن في المغرب من المبدعين من لم يفسح لهم النشر خارج المغرب، ولو أتيح لنافسوا وبقوة. وهنا أشير إلى نخبة مهمة من الروائيين تمتلك مؤهّلات على مستوى التعبير دالة وعميقة. وأقول بأنّها ستحدث نقلة سواء على مستوى الإبداع في المغرب أو المشرق مستقبلاً.
أما بخصوص طفرة النقد الأدبي في المغرب، فتعود وبالأساس إلى ندوتين عقدتا في المغرب: (ندوة الرواية بفاس) و (ندوة النقد والإبداع) بالدار البيضاء. إذ من خلالهما أكّد النقاد والباحثون المغاربة جدارة المنجز الذي يسهمون من خلاله في إغناء النقد الأدبي العربي، علماً بتفاوت التجارب وتغليب بعضها للنظر على حساب التطبيق.
وإذا كان النقد في السبعينيات والثمانينات حقق جدارة تفرّده، فإنَّ ما يلاحظ اليوم طبيعة التراجع على المستويات كافة، وهو ما يؤثر في مسار الثقافة في المغرب.
* لم يتوقّف مشروعك عند النقد الأدبي والرواية، بل ذهبت بعيداً لقراءة الفكر الفلسفي المغربي مثل عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري. ما الذي سيعطيه لك هذا التحول، وهل هناك تحوّلات مقبلة؟
- لم أهتم بالفكر الفلسفي المغربي في صيغته المحض، بل ركّزت أساساً على الجانب الإبداعي.
فبالنسبة للجابري انصب الاهتمام على الجزء الأول من سيرته الذاتية "من بعيد". وذلك في سياق دراسة وتحليل سير المفكرين الذاتية، علماً بأنّه اكتفى فقط بإصدار الجزء الأول من سيرته المذكورة. أما العروي، فأعده فضلا عن كونه مفكّراً لم يوفَ حقّه في هذا
المجال.
إذ تحدّدت بداياته في الكتابة المسرحية، إذ ألّف نصّه "رجل الذكرى". وهو النص الذي ألحق بروايته الغربة، لولا أن من درسوا وحلّلوا هذه الرواية أغضوا عن الاهتمام به، ليعود إلى إصداره بشكل مستقل في 2014. على أنّ الامتداد الفعلي لهذه الرواية تمثّل في اليتيم والفريق وأوراق. هذه الرباعية تتداخل فيها أشكال التعبير الأدبية المتداولة: القصة والرواية والسيرة. على أنّه في اللاحق سيبدع نصّاً تمتح صيغته من شكل الكتابة البوليسية: غيلة، كما الخيال العلمي: الآفة. وبذلك نجده طرق أشكال الكتابة برمتها إذا ما أضفنا رباعية اليوميات خواطر الصباح والاعترافات من خلال نص استبانة. فالعروي رجل الآداب في تصوّري كتب رواية ممتدة بالتنويع الإبداعي لأشكال التعبير.
والواقع أن التغييب المتعمّد لصورة رجل الآداب مشرقاً ومغرباً، الدافع الرئيس والأساس لانخراطي في الاهتمام به مبدعاً، وثمّة أكثر من بحث
ودراسة أفكر في إنجازها عن مساره الإبداعي.