النهضة ومعوقاتها

استراحة 2020/09/06
...

د. علاء حميد إدريس
لم تكن قضيّة النهضة ومتطلّباتها حاضرة في العالم العربيّ، قبل الاستقلال وتكوين الدولة الوطنيّة بعد مرحلة الاستعمار. وحينما نسترجع تاريخ المجتمعات العربيّة وقت خضوعها للدولة العثمانيّة، لا نجد أنّها عاشت هاجس النهضة، والذي يختلف بطبيعة الحال عن هذا السياق.
فما قام به محمد علي باشا في مصر “ 1805 -  1848” أولى أهمية خاصة للجيش والتعليم والصناعة، وما نشأ في العالم العربي خلال السيطرة العثمانيّة هي التوجّهات القومية، وبتأثير من التيّارات ذات التوجّه القوميّ والتي أخذت تظهر في الدولة العثمانية خلال فترة التنظيمات، ولهذا مرّت قضيّة النهضة بعدة انتقالات فمن أولوية الاستقلال ثم الحاجة إلى التنمية، بقيت النهضة مرتبطة بالتاريخ من دون أنْ تتحوّل إلى هاجس فكريّ يبنى على أسس 
متينة.
 
عقدة السلطة
في الغرب كانت المسألة مختلفة من حيث التسلسل الفكريّ والاجتماعيّ في ما يخص النهضة، إذ تبلورت متطلبات النهضة بعد الانتهاء من الاصلاح الدينيّ لكي تصل بها المجتمعات الغربية الى التنوير ومن بعد ذلك تحققت نهضتها، قد يردّ على هذا الطرح أنّنا في العالم العربيّ قد دخلنا في مرحلة الاصلاح الديني مع الافغانيّ”1838 – 1897”، ومحمد عبده “1859 -  1905”، ورشيد رضا “1865 - 1935”، وخير الدين التونسيّ “1873 – 1890”، وهبة الدين الشهرستانيّ “1884 -  1967”، إنّ الاصلاح الدينيّ في الغرب لم يكن واقعًا تحت عقدة السلطة ومن يمتلكها، كما هو حاصل في العالم العربيّ، ومن التفت إلى أثر هذا العائق الشيخ محمد عبده حين تحوّل من أهميّة التغير في السلطة إلى أولويّة التربية. 
قد يكون تحوّل الشيخ محمد عبده عن النهضة بمعناها السياسيّ إلى التربويّ والاجتماعي، بسبب الافتراق المستمر في العالم العربيّ بين السياسي والفكريّ، فالعلاقة بين الجانبين قائمة على الإخضاع والتابعية من قبل السياسي لكلّ ما ينتجه الفكريّ، ومن جانب آخر يرى بعض الباحثين في قضايا النهضة أنّ من معوقات النهضة في العالم العربيّ، نمط العلاقة بين الإسلام “فهمه وتلقّي معانيه” وثقافة مجتمعات هذا العالم، إذ نلمس أنّ في تلك العلاقة نوعا من التناقض فهي استملاكية، وفي الوقت ذاته ينظر إليها من زاوية أخرى على أنّها تمثل جزءًا من معوّقات 
النهضة.
العالم الأعجميّ، كما سمّاه الأستاذ جواد كسّار في عموده بجريدة الصباح بتاريخ 16/ 8/ 2020، العدد 4896 “النهضة بين محورين”، تمكّن من إيجاد عوامل اجتماعية توازن العلاقة بين الإسلام وثقافته لكي لا تصبح عائقًا أمام نهضته، وهذا ما نسمّيه في العلوم الاجتماعية بعمليات التكيّف والتي تعبّر عن قدرة الفرد أو الجماعة على استيعاب المتغيرات مع إيجاد صيغ ثقافيّة وتاريخيّة توازن بين هويّتها والمتغيّرات التي تطرأ عليها.
يذهب الأنثروبولوجيّ الأميركيّ كليفورد غيرتز Clifford Geertz في دراسته للعلاقة بين الإسلام والتقاليد الاجتماعيّة بأندونيسيا، إلى أنّ فهم وتلقّي الإسلام يخضع للسياق الاجتماعيّ لكلّ مجتمع، فالإسلام في ماليزيا غير ما هو موجود في تركيا، وهنا لا أتكلم عن الإسلام بمعناه العام وإنّما تمثّله وممارسته في السلوك والتفاعل مع مؤسسات
المجتمع.
 
صياغة تساؤلات جديدة
أرى أنّ النهضة والحاجة إليها، إن كانت موجودة عند مجتمعات العالم العربيّ، تحتاج إلى صياغة تساؤلات جديدة، تقطع مع تاريخ تشكّل قضية النهضة من القرن العشرين وإلى اليوم، فنحن عن أي نهضة نتكلّم؟ النهضة في جانبها المادي والذي يقارب التنمية أو الفكري والذي سوف يصطدم بعقدة السلطة ومن يحرسها في العالم العربيّ، ولماذا فشلت المجتمعات العربية في امتلاك نهضتها على ضوء ما واجهت من أزمات وتحدّيات.
في العالم الأعجمي “تركيا، وإيران، وماليزيا، وأندونيسيا” كانت النهضة فيه نتيجة مخاض فكريّ يؤثر في السياسيّ ويغيّره، ففي تركيا كان هاجس إيجاد المكانة المتلائمة للهويّة ذات المضمون الإسلامي مع النموذج التركيّ وخصوصيته التاريخيّة والثقافيّة، ولهذا صيغ “النموذج التركيّ الإسلاميّ” بمعنى أدق إنتاج هوية تركية تتقبّل الأبعاد الاجتماعية للمجتمع التركيّ والتي منها بعده الإسلاميّ، وكذلك في إيران فإنّ القومية حاضرة لكي تحدّد المساحة التي يحضر فيها الإسلام وما يتناسب مع ثقافة المجتمع الإيرانيّ، وأمّا في ماليزيا فإنّ التوازن بين الجماعات الرئيسة الثلاث “الملاويّة/ السلطة، الصينيّة/ الاقتصاد، الهنديّة/ الخدمة العامة” مهّد لاستقرار المجتمع الماليزي، إذ كانت الهويّة الإسلاميّة للجماعة الملاوية الطاقة والزخم التي ساعدتها على تحقيق هذا التوازن وتولّي إدارة الدولة، وكذلك أندونيسيا التي وضعت البانجاسيلا “المبادئ الخمسة وهي: الإيمان بالله الواحد، والقومية الإندونيسية، والعدالة الاجتماعيّة، والديمقراطيّة، الإنسانيّة، إذ أصبحت أساسًا للدولة الوطنيّة، ومع وجود صراع ينمو ويخفت بين فترة وأخرى في أندونيسيا حول علاقة الدين بالدولة، ولكنّ الفارق أنّ هناك ثابتًا (البانجاسيلا) متفق عليه يحدد اتجاهات هذا
الصراع.
إنّ هذه الملامح الفكريّة والاجتماعية من العالم الأعجميّ تؤكّد تمايزه عن العالم العربيّ المصاب بتضخم السياسيّ على حساب الفكريّ، فلو تساءلنا ما هو منطلق الفكريّ الذي وجّه الصراع في مجتمعات العالم العربيّ؟ أو أن القضيّة برمّتها كانت سياسية دون الاعتماد على أيّ منطلق فكريّ! سوف نلاحظ أنّ السياسية لم تكن لأجل تحقيق غاية اجتماعية واضحة، وإنّما كانت لأجل ذاتها أو أنّها قصدت تحقيق الاحتكار والسيطرة لفئة معينة. 
 
العراق: المتغير هو الثابت
تسرّبت قضيّة النهضة إلى المجتمع العراقيّ وثقافته، عن طريق الأدب والشعر ونموذج المساجلات الشعريّة حول قيم التقدّم والتغيّر بين الشاعرين “جميل صدقي الزهاويّ ومعروف الرصافيّ” معروف لمن يراجع حضور أثر النهضة على الصراع الاجتماعيّ.
وحين نراجع أدبيات القوى السياسيّة الفاعلة في العراق: “الماركسية، والقومية، الإسلاميّة “ منذ تأسيس الدولة ولغاية مجيء سلطة البعث المستبدة، لا نجد للنهضة حضورًا واهتمامًا يذكر، لقد كانت النهضة فاعلة كقضية فكريّة واجتماعية من خلال أفراد امتلكوا مكانة علميّة ووجاهة اجتماعية من أمثال: “محمد رضا المظفر، ومحمود شكري الآلوسيّ، ومحمّد تقيّ الحكيم، وأنستاس ماري الكرمليّ”. 
إنَّ المدار في العراق هو ما تفعله السلطة في إدارة المجتمع وإلى أي وجهة تدفعه، وهذا يعني أنّ السلطة هي المؤثر والفاعل؛ والمجتمع ليس سوى متلقٍ منفعل بما تقوم به.
تشير الكاتبة فاطمة المحسن في كتابها “تمثّلات النهضة في العراق الحديث” الصادر عن دار الجمل 2010، إلى أنّ النهضة في العراق كانت حاضرة من جهة الأفراد وجهودهم “الأدبيّة والشعريّة” والتي لم ترق بحال إلى الفكرية، وأنّها غائبة عن توجّهات القوى السياسية والاجتماعية، نظرت المحسن إلى تاريخين، الأوّل: عام 1908 والذي صدر فيه الدستور العثماني ليكون حافزًا للعراقيين للخلاص من هيمنة السلطة العثمانيّة من خلال مبادئ المساواة والحرية، والثاني: عام 1921 تكوين الدولة العراقيّة وما سعى إليه الملك فيصل الأوّل في بناء نظام سياسي والاجتهاد من أجل صياغة دولة يجمع العراقيين علي شرعيّتها، ولكنه اصطدم بتشكيلات ما قبل الدولة وتركة الميراث العثمانيّ والذي استمر لأربعة قرون. هكذا تبقى قضية النهضة في العراق مثل بقية القضايا التي أهملت وتحوّلت الى سراب يسعى وراءه من يعيش محنة هذا 
المكان.