كينيث غيرغن.. التركيب الاجتماعي للحقيقة

ثقافة 2019/01/08
...

 
نصير فليح
مركزية مفهوم "الحقيقة" في مختلف المجالات الفكرية أمر في غنى عن التوضيح، لكن مقاربات هذا المفهوم الرئيسي لا تزال مستمرة الى يومنا الحالي، مثلما كانت عبر التاريخ. كما ان الاتجاهات الفكرية الرئيسية التي تنامت في العقود الماضية مثل ما بعد البنيوية وما بعد الحداثية والتفكيكية والتأويلية قدمت ارضية جديدة لمراجعات رئيسية فيه.
 
واحدة من المقاربات المعاصرة لمفهوم الحقيقة هي النظرة  الى الحقيقة باعتبارها "تركيبا اجتماعيا"، بمعنى ان لكل مجتمع نظرة معينة للحقيقة تتحدد في السياقات الاجتماعية والحدود المعرفية وتوجهات وقيم المجتمع المعني، وليست ببساطة مجرد التطابق البسيط بين الافكار والواقع الخارجي. وهذه المقاربة تسمى "التركيبية الاجتماعية" social constructionism، وهو الاتجاه الذي يتبناه المفكر وعالم الاجتماع المعاصر كينيث غيرغن Kenneth Gergen (م 1935). 
ولكن مفهوم الحقيقة باعتباره تركيبا اجتماعيا ليس وليد الحاضر تماما، فقد بدأ تقديمه على ساحة الفكر النظري بمنهجية منذ ستينات القرن الماضي، لا سيما مع كتاب "التركيب الاجتماعي للحقيقة" لكل من بيتر بيرغر Peter Berger و توماس لكمان Thomas Luckman، هذا الكتاب الذي فحواه الاساسية ان "الواقع" يتشكل اجتماعيا وأنّ على علم اجتماع المعرفة تحليل العمليات والمجريات التي يحدث فيها هذا التشكل. وقد استلهمت التركيبية الاجتماعية من التطورات المختلفة العلمية التي حدثت في القرن العشرين مثل التحول الجذري الذي جرى في بداية ذلك القرن مع ظهور فيزياء الكوانتم والنظرية النسبية، حيث لم تعد الحقيقة العلمية نفسها حالة من تجسيد الواقع الخارجي كما هو، قدر ما هي دراسة "العلاقة بين المراقب والواقع الخارجي" كما تقول الموسوعة البريطانية، او ما يتوافق عليه علماء عصر معين، او ينسجم مع النموذج العلمي في سياق محدد. ولعل القاريء الكريم على اطلاع على الكتاب الشهير لتوماس كون Thomas Kuhn "بنية الثورات العلمية".
وغيرغن يرى ان الاتجاهات الفكرية لما بعد الحداثة وفرت ارضية وسندا فلسفيا ونظريا قويا لمقاربة مفهوم الحقيقة على هذا النحو. فالاتجاهات والتيارات الفكرية الرئيسية لما بعد الحداثة التي ذكرناها تميل، بشكل او اخر، الى نسبية الحقيقة، والى الاحتفاء بالتعددية والاختلاف وعدم وجود معان نهائية للرموز والعلامات والدوال واللغة (كما هو الحال مع التفكيكية) والى تخطي ما يسميه جان ليوتار "السرديات الكبرى".
"التركيبية الاجتماعية" لدى غيرغن ترى اننا نركّب سلسلة من السرديات عن العالم وان هذه السرديات نفسها عرضة لحالة مستمرة من النفي ايضا (وهنا نجد انفسنا قريبين من التصور الهيغلي عن النفي في تشكلات الحقيقة والروح المطلق عبر التار يخ). كما تبين ان هذه السرديات تختلف في المجتمعات المختلفة، وان علينا ان نبقي دائما داخل تصوراتنا حيزا لسرديات او تركيبات الحقيقة المغايرة الاخرى.
وهذا التفاعل بين البشر هو ما يحدد كيفية عمل هذه السرديات المتباينة معا وتفاعلها. فهذا الترابط بين التركيبات او السرديات المختلفة عن الحقيقة، كما يراه غيرغن، عنصر جوهري في الوجود البشري نفسه، وكما يعبر هو نفسه عن ذلك بقوله المميز "أنا مترابط linked، اذاً أنا موجود" في اشارة منه الى الكوجيتو الديكارتي الذائع الصيت الذي يقول "أنا أفكر اذاً أنا موجود" . 
فلا يمكن ان يكون ثمة وجود للانسان بمعزل عن هذا الترابط بين التركيبات المتنوعة للحقيقة، التي تعكس وجوده الاجتماعي من جهة، والتعدد المحتم في التصورات عن الحقيقة من جهة اخرى، رغم المشتركات.
غيرغن يناهض كثيرا المناهج التي تطورها العلوم الاجتماعية، اذ يراها ميالة الى توليد مباديء عامة وقوانين كلية مؤسسة على نتائج البحث التجريبي، ولكنه لا يرى ثمة مبررات كافية لمباديء كهذه ويرى ضرورة التحول من فلسفة علم تجريبية الى اخرى "ما بعد تجريبية"، أي انزياح من المنظور البنيوي للغة الى ما بعد البنيوي، ومن الحداثة الى ما بعد الحداثة. وهو ايضا يرى، كما يفعل دريدا في التفكيكية، ان "التركيببة الاجتماعية" نفسها هي منهج او طريقة وليست نسقا او نظرية ناجزة، وافكارها لا تحمل اعلانا عن حقائقها الخاصة. وهو ما يزال يقدم تطويراته المستمرة لرؤيته هذه، كما يتجسد في عدد من اخر كتبه مثل  Toward Transformation in Social Knowledge ( = نحو تحول في المعرفة الاجتماعية) (منشورات سبنغر 2012) و An Invitation to Social Construction ( = دعوة الى التركيب الاجتماعي) (الطبعة الثالثة منشورات "سيج" 2015).
ان نظرية ترى في "الحقيقة" تركيبا اجتماعيا تنأى بالضرورة عن تصور صفات معينة ملازمة للبشر في كل زمان ومكان. ولعل القاريء المطلع على كتابات علي الوردي في بحوثه الاجتماعية، مثلا، يلاحظ عبارات من قبيل "وهذا ديدن الانسان في كل زما ن ومكان..." وما شابه، بمعنى وجود صفات جوهرية ملازمة للانسان والمجتمع، وان هناك "طبيعة بشرية" معينة غير متغيرة. ورؤية او فلسفة مثل هذه الاخيرة تندرج ايضا في عصرنا الحالي ضمن النموذج الاقتصادي الذي تقدمه الرأسمالية (بصيغتها الحالية المتعارف على تسميتها "الليبرالية الجديدة") التي ترى ان صفات الانانية والتنازع هي الحالة الطبيعية في افعال البشر وسلوكهم، وهو ما يؤدي بالتالي الى ان تكون الفردانية والمنافسة سمات اجتماعية دائمة ايضا. ولكن التركيبية الاجتماعية تنأى عن تصورات من هذا النوع، واذا كان لبعض الصفات في الانسان والمجتمع ثباتا ملحوظا، فانه يظل نسبيا لا مطلقا.
لكن غيرغن له تحفظاته ايضا على ما بعد الحداثة، وفي كتابه The Saturated Self ( = النفس المُتخَمة) يتناول جانبا مما يراه مشكلة متنامية في عالم ما بعد الحداثة، وهو الحجم الهائل لانظمة الاتصال والمعلومات الذي نغرق فيه يوما بعد اخر، حيث يصبح من السهل جدا الشعور باننا "نفوس تحت الحصار" على حد تعبيره. وبالتالي فان الفائض في عملية الترابط في شبكة السرديات يؤدي الى احساس متنام بالانفصال والانعزال بين افكارنا الرئيسية المتوارثة عن النفس، وبين المتطلبات التي تفرضها علينا "حالة التخمة" المعلوماتية والاتصالية هذه.