في خطاب وليم فوكنر أثناء حفل تسلّمه نوبل جاءت عبارته التالية كتكثيف لفكرة الخطاب المكثف أساساً بمجمله، يقول فوكنر:» إن مأساتنا اليوم هي خوف جسدي، عام وشامل، وقد تعاظم مؤخراً حتى أننا نعاني (بفعله). لقد نسيت معضلات الروح، وليس ثمة إلا سؤال واحد فقط: متى سأتفجّر؟». كان هذا في عام 1950 بعدما نال الكاتب نوبل عام 1949 حيث تأجل الحفل لعام 1950 الذي حظي بالجائزة فيه الفيلسوف برتراند رسل.
كان العالم حينذاك ما زال يتنفس دخان الحرب العالمية الثانية بعدما سكتت مدافعها في عام 1945. وحين يُبتلى جيلٌ بمصادفته حرباً كتلك الحرب فليس ما يتحطم فيها فقط حياة الجيل، ذلك أن التحرّر من آثار الحروب وندوبها في الروح، بالنسبة لكثير من معاصريها، قد يحتاج منهم ما تبقى من أعمارهم. وبشكل أخص فإن المشتغلين بالآداب والفنون وحقول المعرفة، إنتاجاً أو اطلاعاً، سيكونون، نفسياً وفكرياً، أكثر عرضةً من سواهم لدوام آثار الحرب في وجدانهم وفي رؤيتهم للعالم والحياة والمستقبل.
هذه النتيجة التراجيدية تساعد على معرفة دوافع تعبير وليم فوكنر في خطابه بحفل توزيع الجائزة. إنه تعبير يرثي الأرواح ولواعجها التي بات الأدب منفضّاً عنها فيما هو ينعى الأدب لانشغاله بجراح الجسد، بخوفه مما يهدده في حياة تُنذر باحتمالٍ مريع، احتمال تفجّر الجسد في كل حين.
كان فوكنر بهذه الإشارة معنياً بوضع الكتابة الأدبية في زمنه وبما تندفع نحوه من اهتمامات هي نتاج مخاوف الجسد. كان فوكنر بهذا يعتقد بأن خطراً يهدّد مصير الأدب بموجب انصرافه نحو تلك المخاوف، وكان معنياً بشكل أساس بالكتاب والشعراء الشبان، باهتماماتهم الكتابية في ذلك الحين. فمباشرة، بعد تلك الإشارة يوضح فوكنر هدفه: «وبفعل هذا (بفعل مخاوف الجسد) فإن الكاتب الشاب والكاتبة الشابة اليوم ينسون مشكلات القلب الانساني، في صراعه الدائم مع نفسه، وهذه المشكلات وحدها القادرة على خلق كتابة جميلة، وهذا وحده ما يستحق عناء الكتابة، هذا وحده يستحق الألم والتعب.»
لكن ما هي (الكتابة الجميلة)؟ هل ثمة مواصفات محدّدة يجري بموجبها تصنيف اهتمامات معينة على أنها مولِّدة لكتابة جميلة بينما سواها يخفق في ذلك؟ رواية فوكنر الأساسية (الصخب والعنف) تقدّم مثالاً لقدرة الكتابة الأدبية على أن تكون إبداعية حتى وإن انشغلت بيوميات ومصائر أسرة انتهت بـ (تَفجّر) حيوات أفرادها بظروف تراجيدية مختلفة. قيمة هذه الرواية هي في استثمارها لتيار الوعي وهو تقنية فنية كانت نتاجاً لظروف الحرب وأمراض الحضارة وصدى لتمزقات الإنسان في مطالع القرن العشرين.
هل ثمة تساؤل روحي أشد بلاغةً، عبر تاريخ الأدب، من التساؤل الذي يستنكر فوكنر انشغال الكتاب الشبان به آنذاك: «متى سأتفجر»؟
الكتابة الأدبية تستطيع بلوغ أهدافها في التعبير عن (معضلات الروح) حتى وهي تركز على أشد التفاصيل اليومية ابتذالاً، حتى وهي تنشغل بالجسد كحطام. في الغالب تكون آلام الجسد، عبر الأدب، ممراً حيوياً لتلك المشكلات الروحية خصوصاً في ظروف التهديد المباشر كما في الحروب. أتوقع أن (معضلات الروح) تظل مفهوماً غامضاً، إن لم يكن ملتبساً، في الخارج من الصلة الوثيقة ما بين الجسد الروح في الطبيعة البشرية، والجسد في مثل هذا الحال هو أكبر من مجرد الكيان المادي المشكّل لوجود الإنسان.
من النادر أن تنشغل الرواية بمثل هذه المشكلات وهذا الامتزاج ما بين الجسد والروح، إنما تشكّلت بموجب هذا الامتزاج موضوعات لعدد ظلّ محدوداً ولكن استثنائياً بين النصوص الروائية. بخلاف هذا فإن تاريخ الشعر هو المترع بالبراهين النصية عن هذا الحال. الرواية، بمعظمها، نبتُ الحياة العامة بتشابكاتها وتعقيداتها بينما الشعر، بجانب منه، صوت الفردية في محنتها بالحياة العامة. كانت بدايات وليم فوكنر، مثل معظم الروائيين الكبار، بدايات شعرية، وهي بدايات تظل، في الغالب، تلقي في ما بعد بظلالها على السيرة النصية لأي كاتب كانت له تجربة مع الشعر. وتفكير فوكنر وهاجسه في خطابه النوبلي لم يكونا في الخارج من هذه الظلال.
في حفل نوبل لذاك العام 1950 كان خطاب برتراند رسل يقف في موضع آخر موازٍ لخطاب وليم فوكنر، وكلاهما كانا ينطلقان من لحظتهما التاريخية، لحظة ما بعد الحربين، وتدهور قيم الحضارة. يعزو رسل هذا التدهور إلى عدم التفات السياسة التي تدير البلدان والعالم إلى مشكلات الطبيعة الإنسانية، يقول رسل في خطابه: « إذا أريد للسياسة أن تصبح علمية، وإذا لم يكن للحدث أن يكون مفاجئاً على الدوام، فمن الضروري أن يتغلغل تفكيرنا السياسي بعمق أكبر في ينابيع الفعل البشري؛ ما هو تأثير الجوع على الشعارات؟ كيف تتقلب فعاليتها مع عدد السعرات الحرارية في نظامك الغذائي؟ إذا قدّم إنسانٌ لك الديمقراطية، وقدّمَ آخر لك كيساً من الحبوب، ففي أي مرحلة من الجوع ستفضل الحبوب على التصويت؟».
كان رسل في خطابه يريد تغيير السياسة، ليغيّر العالم، يبدأ الخطاب هكذا: «لقد اخترت هذا الموضوع لمحاضرتي الليلة لأنني أعتقد أن معظم المناقشات الحالية حول السياسة والنظرية السياسية لا تأخذ في الاعتبار علم النفس بشكل كافٍ». ثم يقول في جانب من الخطاب: «إذا أُريد للسياسة أن تصبح علمية، وإذا لم يكن للحدث أن يكون مباغتاً على الدوام، فسيكون من المهم أن يتغلغل تفكيرنا السياسي بعمق أكبر في ينابيع الفعل البشري». بينما كان فوكنر يطمح إلى تغيير الأدب، وأيضاً، بقصد تغيير العالم، كما يريد برتراند رسل، فإن فوكنر يتفاءل فيقول: « أؤمن أن الإنسان لن يكتفي بالتحمل وحسب؛ إنه سينتصر، إنه خالد، ليس لأنه الوحيد، بين الكائنات الأخرى، الذي يمتلك صوتاً لا ينضب، إنما لامتلاكه روحاً وحسب، روحاً قادرة على التعاطف والتضحية والتحمّل. إن من واجب الشعراء والكُتاب الكتابة عن هذه الأشياء»، ويضيف بثقة أكبر بالشعر وبنقده أيضاً: «لا يلزم أن يكون صوت الشاعر مجرد سجل للإنسان، بل يمكن أن يكون أحد الدعائم، والأعمدة التي تساعده على التحمل والانتصار». ولعل من المفارقة أن يأتي برتراند رسل بمقترح غريب نوعاً ما كحلٍّ لتهذيب السلوك البشري فيقول في خطابه: «لقد اندفعت الحياة المتحضرة تماماً نحو التدجين، وإذا أريد لها أن تكون متوازنة، فينبغي أن توفَّر منافذ غير ضارة للدوافع التي أشبعها أسلافنا البعيدون في الصيد. أعتقد أن كل مدينة كبيرة يجب أن تحتوي على شلالات اصطناعية يمكن للناس النزول إليها بزوارق خفيفة، كما يجب أن تحتوي على حمامات سباحة مليئة بأسماك القرش الميكانيكية. يجب أن يُحكم على أي شخص بساعتين في اليوم مع هذه الوحوش العبقرية إذا ما حرّض لصالح حرب وقائية».
•التنصيصات الواردة بالمقال مأخوذة من نصّي خطابي فوكنر ورسل المنشورين في موقع جائزة نوبل .